القرض الحسن والمشاركة.. رؤية إسلامية لحل مشكلة الفقر والبطالة
عندما نتكلم عن المشاريع الصغيرة فلا نعني أن هذه المشاريع صغيرة في معناها أو فائدتها، بل هذه المشاريع تشكل أداة مهمة لسد ثغرة كبيرة من حاجات المجتمع، ولكن المقصود بها هنا المشاريع ذات رؤوس أموال صغيرة، ورأس المال في مثل هذه المشاريع قد لا يصل حتى إلى 100 ألف ريال.
لعلنا نشير إلى التجربة الأهم والأبرز التي أخذت حيزا كبيرا من الدراسات والبحوث والمقالات وهي تجربة البروفسور محمد يونس التي نال على أثرها جائزة نوبل للسلام وهي تجربة ثرية تستحق التحليل والدراسة ليتم تعميمها على الكثير من البلدان الإسلامية التي تعاني الفقر، ليس ذلك فقط بل التجربة لها دور كبير في التنمية الاقتصادية والاجتماعية بشكل يسهم في انضمام أعداد أكبر من أفراد المجتمع ليكونوا فاعلين فيه بدل أن يكونوا عالة.
والتجربة عبارة عن فكرة نشأت بعد سنة من نيل بنجلادش استقلالها من الاستعمار البريطاني حينما بدأ البروفسور محمد يونس بتدريس مادة الاقتصاد في إحدى الجامعات.
ثم بدأت الفكرة تتطور حتى بدأ تطبيقها في محافظة شيتاجونج في عام 1976 ثم بدأت تنتقل الفكرة إلى مدن أخرى في بنجلادش ثم في 1983 تحولت تلك التجربة الصغيرة إلى مؤسسة مالية تحت اسم بنك جرامين (جرامين تعني بالبنجلادشية القرية) أسهمت فيه الحكومة بنسبة 60 في المائة بينما الحصة المتبقية وهي 40 في المائة مملوكة للفقراء من المقترضين، ثم في 1986 زادت حصة الفقراء لتصبح 75 في المائة في حين أن الحكومة أصبحت تمتلك 25 في المائة.
لعله من المثير أن هذا المصرف يخالف الاتجاه السائد في البنوك التقليدية حيث يهتم بالطبقة الأكثر فقرا في المجتمع البنجلادشي بعكس الوضع في البنوك التقليدية التي يكون فيها الغني أوفر حظاً بخدمات البنك، ومما لا شك فيه أن الهدف الأهم لمثل هذه التجربة هو معالجة قضية من أهم القضايا الشائكة في المجتمعات خصوصا ما يسمى العالم الثالث إذ تشكل لقمة العيش هاجسا ويعيش الكثير من أبناء تلك المجتمعات أحيانا بمعدل أقل من دولار واحد فقط يوميا.
لعلنا من خلال قراءة للكيفية التي عالج بها الإسلام مشكلة الفقر نجد أن الصدقة التي عادة ما تُعطى للفقراء ليست الحل الوحيد لمعالجة الفقر، بل يمكن أن نذهب إلى أبعد من ذلك وهو القول إن الصدقة والزكاة ليستا الأصل في معالجة الفقر، بل هما عبارة عن وضع استثنائي وذلك لوجود حالات من الصعب عليها اكتساب لقمة العيش بنفسها.
لعله مما يشهد لما تقدم ما ورد عن النبي، صلى الله عليه وسلم، أنه جاءه رجلان يسألانه من الصدقة فنظر، صلى الله عليه وسلم، إليهما فوجدهما جلدين فقال إن شئتما أعطيتكما ولكن لا حظ فيها لغني ولا لقوي مكتسب. (رواه النسائي).
وفي الحديث الآخر عن قبيصة بن مخارق الهلالي قال تحملت حمالة فأتيت النبي، صلى الله عليه وسلم، فقال أقم يا قبيصة حتى تأتينا الصدقة فنأمر لك بها ثم قال يا قبيصة إن المسألة لا تحل إلا لأحد ثلاثة: رجل تحمل حمالة فحلت له المسألة فسأل حتى يصيبها ثم يمسك ورجل أصابته جائحة فاجتاحت ماله فحلت له المسألة فسأل حتى يصيب قواما من عيش أو قال سدادا من عيش ورجل أصابته فاقة حتى يقول ثلاثة من ذوي الحجى من قومه قد أصابت فلانا الفاقة فحلت له المسألة فسأل حتى يصيب قواما من عيش أو سدادا من عيش ثم يمسك وما سواهن من المسألة يا قبيصة سحت يأكلها صاحبها سحتا. (رواه أبو داود).
فنجد هنا أن الأصل في المسألة أنها لا تكون للقوي المكتسب كما أنها لا تكون للغني صاحب المال، ولكن السؤال: ماذا يفعل القوي المكتسب الذي لا يملك المال؟ لعل السنة النبوية لم تكن خالية من حل لمثل هذه المشكلة، فمما ورد في ذلك أن رجلا من الأنصار أتى النبي صلى الله عليه وسلم يسأله فقال أما في بيتك شيء؟ قال بلى، حلس نلبس بعضه ونبسط بعضه وقعب نشرب فيه من الماء، قال ائتني بهما فأتاه بهما فأخذهما رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بيده وقال من يشتري هذين؟ قال رجل: أنا آخذهما بدرهم، قال: من يزيد على درهم؟ مرتين أو ثلاثا، قال رجل: أنا آخذهما بدرهمين، فأعطاهما إياه وأخذ الدرهمين وأعطاهما الأنصاري وقال اشتر بأحدهما طعاما فانبذه إلى أهلك واشتر بالآخر قدوما فأتني به فأتاه به فشد فيه رسول الله، صلى الله عليه وسلم، عودا بيده ثم قال له اذهب فاحتطب وبع ولا أرينك 15 يوما، فذهب الرجل يحتطب ويبيع فجاء وقد أصاب عشرة دراهم فاشترى ببعضها ثوبا وببعضها طعاما فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم، هذا خير لك من أن تجيء المسألة نكتة في وجهك يوم القيامة، إن المسألة لا تصلح إلا لثلاثة: لذي فقر مدقع أو لذي غرم مفظع أو لذي دم موجع. (رواه أبو داود وابن ماجة).
فالشاهد من الحديث أن إحدى أهم وسائل سد حاجة المرء هو العمل والاجتهاد في إنشاء المشروع الأول الذي يبدأ معه الإنسان سد حاجته الشخصية ومن يعول من أهله، ولعل من أهم أهداف هذا التوجيه النبوي تحقيق دخل ثابت ودائم يكفي لسد حاجة الفرد سواء كان ذلك بشكل كلي أو جزئي، وكما في المثل المعروف لا تعطني سمكا وعلمني كيف أصطاد السمك، إضافة إلى فوائد أخرى غير مباشرة من حفظ كرامة الإنسان، حيث إنه يحصل على قوته بعمل يده، إضافة إلى هذا وذاك فإن مثل هذه المشاريع التنموية تسهم بشكل مباشر في معالجة مشكلة البطالة، وتدعم الاقتصاد الوطني عبر تحقيق الكفاية لأفراده، الذين هم المكون الأساسي للوطن، ومن ثم توفير السلع والمنتجات والخدمات كنتيجة لعمل هذه الشريحة العريضة من المجتمع.
ولعله من المهم توضيح إحدى أهم الوسائل لتحقيق هذا المبدأ الذي زرعه النبي، صلى الله عليه وسلم، في أصحابه، وهو دعم المشاريع الصغيرة، وذلك يتم غالبا عن طريق المؤسسات المالية سواء الحكومية أو الأهلية أو الجمعيات الخيرية، وذلك لأن أكثر المشاريع سواء الصغير منها أو الكبير يتطلب رأسمال وقد لا يكون متوافرا لدى الشخص الذي يريد أن يبدأ المشروع الأول له، وذلك لاتساع متطلبات إنشاء المشاريع اليوم عما كان عليه الحال في عهد النبي، صلى الله عليه وسلم، حتى إن ظهر أن المشروع يعتبر صغيرا.
لعلنا هنا نتناول في هذا المقال ما يمكن أن تؤديه المؤسسات الخيرية في هذا المجال، نحن نعلم أن المؤسسات الخيرية خصوصا في السعودية تمارس دورا رائدا فيما يتعلق بتلبية حاجات الفقراء في الداخل والخارج، ومع توسع تلك المؤسسات في أنشطتها يمكن لها أن تمارس دورا تنمويا في دعم المشاريع الصغيرة لتحقيق الهدف الأسمى لتلك المؤسسات وهو خدمة المجتمع وتلمس حاجاته.
فالمؤسسات الخيرية وإن كانت قد لا تملك إمكانيات كافية فيما يتعلق بالتأهيل والتدريب والتسويق إلا أنها تعتبر من المؤسسات الأقرب والأكثر ملامسة لمعاناة الفقراء والمعوزين والمحتاجين بشكل عام، وأعرف بكثير من تفاصيل حياتهم.
وأما ما يتعلق بالجوانب الأخرى فمن الممكن التعاون مع مؤسسات حكومية أو خاصة تتولى عملية التأهيل والتدريب بعد دراسة الجمعيات الخيرية لأوضاع الأشخاص الذين يحتاجون إلى التمويل والمبالغ التي يمكن أن تقدمها لهم.
أما ما يتعلق بالمشاريع التي تتطلب عملية التسويق فيمكن التعاون مع القطاع الخاص بعد دراسة شاملة لحاجات المجتمع بشكل عام، ليتم تسويق تلك المنتجات.
ومن الممكن للمؤسسات الخيرية الاستفادة من أدوات التمويل عبر العقود المتوافقة مع الشريعة الإسلامية، والتي لا تشكل عبئا كبيرا على الشريحة المستهدفة، والربح في هذه الحالة أمر ثانوي قد يُحتاج إليه لتحقيق عامل الاستمرار.
لعل من أفضل العقود التي يمكن أن يتم التركيز عليها في مثل هذه المشاريع عقد القرض الحسن والمشاركة أو ما يسمى بالمضاربة أو المقارضة في الفقه الإسلامي، وفي هذا العقد الخسارة الأكبر ـ في حال حدوثها ـ تحصل غالبا للطرف الممول وهو في العادة الطرف الأقوى ماليا في حين أن خسارة العامل تكمن في الجهد الذي بذله، في حين أن الربح ـ وهذا والله أعلم هو الغالب ـ إذا ما تم المشروع عن دراسة يتشارك الطرفان فيه حسب الاتفاق المبرم بينهما.
محاضر في جامعة الملك فهد للبترول والمعادن وطالب دكتوراة في التمويل الإسلامي في جامعة أدنبرة