الجنوب يتفوق على الشمال للمرة الأولى في قطاع البنوك الأمريكية

الجنوب يتفوق على الشمال للمرة الأولى في قطاع البنوك الأمريكية

يوجد بين الولايات الجنوبية والولايات الشمالية في الولايات المتحدة، نمط خاص من أنماط المنافسة. ويعود جزء من جذور هذه المنافسة إلى الحرب الأهلية التي نشبت في الماضي بين الجهتين، وخسرها الجنوب الذي ما يزال بعد مضي قرن ونصف القرن تقريبا من نهاية الحرب يذكرها حتى الآن - فما من مكان في العالم يوجد فيه مثل هذا الكم من المجلدات التاريخية التي تتحدث عن الحرب الأهلية في المكاتب كما في الولايات الجنوبية. ويعود جزء آخر من جذور المنافسة إلى تفوق بعض المدن الكبيرة الشمالية مثل بوسطن ونيويورك، فالحاضرة الأولى تمتلك الجامعات والمعاهد المشهورة مثل جامعة هارفارد ومعهد ماساشوستس للتكنولوجيا (MIT)، والثانية تعتبر بالبورصة العالمية وول ستريت أهم مركز مالي في العالم على الإطلاق.

ولكن الآن، استطاع أحد البنوك في الولايات الجنوبية أن يغافل وول ستريت إنه بنك أمريكا الذي يقع مقره الرئيسي في مدينة شارلوت في ولاية نورث كارولينا الجنوبية حيث فاقت قيمة البنك في البورصة أخيرا ولأول مرة قيمة نظيره الذي يفوقه في جمالي الموازنة، المجموعة البنكية العالمية سيتي جروب Citigroup التي يقع مقرها الرئيسي في مدينة مانهاتن.

حقيقة، المسألة كانت مسألة وقت فقط، وهي متى سيتخطى بنك أمريكا مجموعة سيتي جروب، حيث إن المصرف الجنوبي تحت إدارة رئيس مجلس الإدارة كينيث لويس كان يلاحق خلال الأعوام الماضية المجموعة البنكية الشمالية بصورة غير منقطعة. فالتغيير الأخير في رئاسة مجلس الإدارة الذي أحدث هذا الرقي، قلّل بنك أمريكا رسميا من أهميته، حيث أفاد البنك بأن التغيير الحاصل لم يؤثر تماما في مجرى أعمال البنك.

ولكن خلف الكواليس بدا أعضاء مجلس الإدارة حول كينيث لويس سعداء جدا بهذه النتيجة الساحقة، ولاسيما أن لويس كان يرى في نفسه وفي البنك ذلك المظلوم المستهان بحقـه. واقعيا، نظرته هذه نابعة من جذور لويس نفسه. فالمصرفي المحنك الذي يبلغ من العمر حاليا 57 عاما وُلد في مدينة ميريديان في الولاية الجنوبية ميسيسيبي، أي بمعنى أنه جنوبي أصلي. ترعرع لويس في عائلة بسيطة الحال كانت تسكن في مدينة كولومبس في ولاية جورجيا. وكانت أمه المعيلة الوحيدة له تعمل ممرضة، فيما كان لويس يساعد من خلال عمله في بيع الجرائد والأحذية، وذلك حتى تستطيع العائلة أن تجد قوت يومها. لم يتعلم لويس في إحدى الجامعات الكبيرة مثل هارفارد، بل تلقى تعليمه في جامعة كولومبيا الحكومية حيث درس إدارة الأعمال. بعد الدراسة في عام 1969 التحق لويس للعمل كمحلل قروض ائتمانية في البنك المحلي نورث كارولينا ناشيونال بنك - إن سي إن بي NCNB.

هذا المعهد المصرفي يعتبر نواة المصرف الكبير الموجود في يومنا هذا. في السابق كانت البنوك المصرفية في أمريكا لفترة طويلة متناثرة بسبب شروط تنظيمية. ومع تحرر السوق المصرفي بدأت موجة الاندماجات بين البنوك الإقليمية تنتشر، والتي لعب فيها بنك نورث كارولينا الوطني دورا حيويا. وكان للبنوك في ولاية نورث كارولينا الجنوبية دورا رائدا في عمليات الاندماج، وذلك لأن هذه الولاية كانت تتبع منذ زمن طويل قوانين بنكية متحررة بالمقارنة مع الولايات الأخرى. وهذا هو السبب في أن المدينة الجنوبية الضخمة شارلوت تعد ثاني أكبر مركز مصرفي في الولايات المتحدة. كما أن رابع أكبر مصرف في أمريكا، واكوفيا (Wachovia) يقع مقره الرئيسي أيضا في هذه الولاية.

البنوك الكبيرة ذات شبكة فروع ممتدة عبر الولايات المتحدة كافة، التي كانت نشأتها نتيجة موجة عمليات الاتحاد، انطلقت لأول مرة مع نهاية التسعينيات. في ذلك الوقت اتخذ البنك الوطني لشمال كارولينا (NCNB) خطوته الأولى، وأصبح البنك الإقليمي الكبير ناشينس بنك (Nations Bank)، وفي عام 1998 تجرأ بخطوة أوسع في طريقه إلى عالم البنوك الدولية الرائدة، فاستحوذ بمبلغ قيمته 60 مليار دولار على بنك أمريكا الذي كان يعتبر في ذلك الوقت بنكا إقليميا كبيرا له فروع في الولايات الغربية من أمريكا فقط. هذا التآلف المصرفي الكبير انطلق في الأسواق المالية تحت اسم يحمل معناه هو اسم بنك أمريكا، وأصبح بذلك، كما يشير الاسم، أول بنك لديه فروع في أرجاء الولايات المتحدة كافة. في بداية الأمر تسلم كينيث لويس مهام الأعمال اليومية في البنك، وأصبح في عام 2001 رئيس مجلس الإدارة. في ذلك الوقت كانت قيمة البنك في البورصة تعادل نصف قيمة المجموعة البنكية سيتي جروب التي تأسست بدورها في عام 1998 من اندماج بنكي ضخم. ولكن هذين المصرفين الضخمين اتبعا فيما بعد استراتيجيات مختلفة. فبينما كان توجه سيتي جروب منصبا بالدرجة الأولى على الظهور في ساحة الأعمال العالمية ومتمركزا في قطاع الاستثمارات البنكية، تبلورت أعمال بنك أمريكا بوجه خاص في قطاع العملاء والأعمال المحلية.

وكانت لهذه الإستراتيجية الفائدة الكبرى للبنك الجنوبي، وذلك عندما عصفت موجة الهبوط في البورصة والفضائح خلال الأعوام الأولى من القرن الجاري على وول ستريت، مما هزّ بعنف إيرادات وأسعار أسهم البورصة للمنافس من ولاية نيويورك سيتي جروب. فخلال الأعوام الخمسة الماضية تصاعدت الأرباح الصافية لبنك أمريكا في المعدل بنسبة 17 في المائة سنويا، فيما ارتفعت في المقابل أرباح المجموعة سيتي جروب سنويا بنسبة 10 في المائة فقط. ومضى لويس قائلا إن وول ستريت لا تمثل الولايات المتحدة كلها مركزا في حديثه على الطبقة المتوسطة والعملاء الأفراد، والذي يرى بأنهم هم أصحاب الشأن الحاسم. كما أنه اكتشف مبكرا الطاقة المالية المختزنة في العملاء من الأقليات الطائفية.

ولم يحتكر لويس نشاطه المصرفي على النمو العضوي وتبني سياسة تقليل التكاليف فحسب، بل شمل به أيضا صفقات الاقتناء والامتلاك. ففي نهاية عام 2003 مهّد لويس الطريق للاستحواذ على البنك الإقليمي الكبير فليت (Fleet) من مدينة بوسطن بمبلغ وقدره 47 مليار دولار. وفي العام الماضي استحوذ بنك أمريكا على بنك بطاقات الائتمان المصرفية إم بي إن إيه MBNA بمبلغ 35 مليار دولار. ويعتزم لويس حاليا تكثيف نشاطات وأعمال البنك في أوروبا وآسيا، فقد قال مؤخرا نحن نرى أن تعزيز وجودنا الرئيسي في الولايات المتحدة هو الذي سيقودنا إلى الريادة في الدول الأجنبيـة. هذا التوجه يعتبر توجها حكيما، طالما أن فرص النمو في الولايات المتحدة محصورة. فالبنوك في أمريكا لا يسمح لها بالاحتفاظ بأكثر من 10 في المائة من الودائع، وبنك أمريكا قارب على الوصول إلى هذا الحد.

الأكثر قراءة