هل يجب على كبار الإداريين إتقان فن الخطابة ؟

هل يجب على كبار الإداريين إتقان فن الخطابة ؟

حتى شربة الماء تحولت إلى كابوس ... لقد نسي رئيس مجلس الإدارة خلال المؤتمر الصحافي الجملة التي وقف عندها في القراءة قبل أن يشرب فاضطر إلى إعادة قراءة صفحة بأكملها من خطابه فتشتت وضاع تركيزه وهو يعيد ما سبق أن قرأه قبل لحظات.

إن مثل هذه المرعبة بالنسبة لكبار الإداريين تثير الكثير من علامات الاستفهام : فلماذا يقع إداري كبير في مثل هذه الورطة ؟ ولعل أكثر ما يدعو إلى التفكير أن هؤلاء الإداريين الذين يكثرون من الحديث عن مهارات الاتصال عند موظفيهم هم أنفسهم الذين يقعون في مثل هذه العثرات الخطابية. ويبدو بشكل عام أن ظهور الإداري أمام الجمهور هو دائما نوع من المجازفة. فهل يعني هذا أن أرتقى إلى حد الوصول إلى كراسي الإدارة يمثل في حد ذاته مخاطرة في مجال الاتصال؟

يمكن القول بالطبع : لا بأس في حدوث الموقف السابق فمن المعروف أن كبار الإداريين في ألمانيا ليسوا بالخطباء المفوهين. إن إجراء مقارنة على الصعيد الدولي تبين فعلا أن كبار الإداريين الألمان متخلفون عن نظرائهم في مخاطبة الجمهور. ويبدو أن الفيصل في هذا الأمر هو الفوارق الشخصية بين هذا المدير أو ذاك وهو ما يدفع البعض إلى مخاطبة الجمهور والبعض الآخر للاستنكاف عن ذلك. وعلى أية حال فإن مواجهة الجمهور لا تحدث استراتيجيا إلا في أماكن قليلة. ولكن إخفاء الرؤوس في الرمال لا يجدي نفعا في مواجهة الكوارث. وليس ثمة ما يدعونا إلى الدهشة عندما نعرف أن القليل جدا من الإداريين هم الذين يخرجون على الناس بخطابات معدة إعدادا حرفيا.

ومن المعروف أن الإداري الألماني " جيد مهنيا ". ولكن تحضيراته للخطابة لا تكاد تتجاوز إعداد مجموعة من الرسوم البيانية. أما في ثقافة مخاطبة الجمهور فهو متخلف جدا، إذ إن الإدارة وحدها لا تكفي، ومن هنا جاءت مقولة أن كبار الإداريين الألمان هم في العمل أفضل مما هم في الكلام. كما أن العقلية وطريقة التفكير الألمانية التي تقوم على المباشرة والترفع عن الخطاب الشخصي تقفان حجر عثرة في طريق التخاطب الصحيح لاسيما في المجال الاقتصادي. لكن الجيل الجديد من أعضاء إدارات شركات مؤشر داكس – 30 أدركوا في هذه الأثناء أن الحضور الإعلامي هو قيمة بحد ذاته، وباتوا يعرفون الآن أن النصوص الجاهزة والرسوم البيانية لم تعد تكفي لمخاطبة الرأي العام. فالعديد منهم يشاركون في استشارات استراتيجية، وبعضهم يندرج في دورات تدريبية لمواجهة أسباب التعثر أمام الجمهور.

إن كل واحد من هؤلاء الإداريين يعترف تماما بما جرى فالنص المكتوب الذي كان ينظر إليه بالأمس على أنه عمل احترافي غاية في الإتقان والجودة فقد كل هذه الميزات بمجرد وقوفه علي المنصة ومطالعته الجمهور حتى أنه يتمني أنه شخصيا لو لم يكن في هذا الموقف.
إن إشكاليات البلاغة والتعبير غالبا ما تتصف بأنها قضايا فرعية ومع ذلك فإن العديد من الإداريين يقضون نصف عمرهم المهني وهم يجرجرون وراءهم هذه الإشكاليات. وهناك أمثلة على ذلك يعرفها الجميع : فأسئلة الخطابة هي العثور على الاستهلال المناسب، والحديث بالسرعة المناسبة، والتوصل إلى اللهجة الملائمة. أما بالنسبة للأجوبة فيجب إحداث توازن ما بين الحجج والاستراتيجيات. وهي وصفة قديمة أكل الدهر عليها وشرب ويجري استخدامها في تدريب الخطباء على فن الخطابة. ومن المعروف أن الإعداد والتدريب يشكلان ضمانة لعدم ارتكاب أخطاء فاضحة.

مثل هذه المشكلات تحدث في جميع الحالات وليس فقط عندما يقف رؤساء مجالس الشركات متحدثين أمام كاميرات التلفزيون. وهذا يحدث أيضا عندما يوجه أولئك الإداريون حديثهم نحو الداخل. فخصوصا في فترات التحولات تكاد خطابات الإدارة الموجهة للداخل بهدف شحذ الهمم كما الخطابات التي تلقى في مؤتمرات الكوادر القيادية تشبه البيانات الحكومية. إن توضيح المواقف من خلال الأحاديث والإجابة على الأسئلة أمر له قيمته. والمديرون الذين يمثلون علامة تجارية لمنتج ما من المنتجات عليهم أن يبرروا علنا القرارات المتخذة ذات الصلة بالمنتج المعني. إن صفة
( الخجل ) من الظهور أمام الجمهور هي من الصفات التي تحرم صاحبها من الانضمام إلى فريق المتفوقين، ذلك لأن المدير يتحدث، عندما يكون ثمة لزوم للحديث، بالنيابة عن الشركة بأكملها وهو ما يمكن تسميته بحديث الشركات.

إن تجارب الفشل البلاغي تشكل حوافز للأفراد، فخلف الفشل البلاغي يكمن الخوف. وكل فشل، حتى وإن مضت عليه 12 سنة يظل نصب أعين مجالس الإدارات وكأنه حدث أمس. هذا بدوره يؤدي إلى مبالغة في الحذر ومن ثم إلى نوع من الضبابية التي تولد بدورها جملا من نوع : " أنا أنطلق من .... أن ......., " في شركتنا يسود الاعتقاد بأن ........و " إن مجلس الإدارة يبذل جهودا من أجل ......" إلخ، وهي جمل نموذجية تتكرر في مسودات الخطابات. وبطبيعة الحال فإن من الخطأ قراءة نص مكتوب. وبالعكس فإن الارتجال يعني التفكير أثناء الحديث، أما النصوص الجامدة فقد أصبحت مرفوضة، في هذه الأثناء، عن حق.

ولكن العكس أيضا خطير : صحيح إن على المديرين أن يتحدثوا بحرية في حالات أكثر، ولكن هذا لا يعني الحديث بدون خطة وبدون ملاحظات على شكل رؤوس أقلام. وكثيرا ما يعتمد هؤلاء على الصدف في التوصل إلى أسلوب معين في الخطابة. ومن ثم يتفوه بعض كبار الإداريين بأقوال لم يجر التفكير فيها مسبقا. وهكذا يجري البحث عن طريق وسط في عملية التدريب على الخطابة تجمع ما بين تحضير المضمون وحرية اختيار أسلوب التعبير والنبرة المناسبة.

إن مخاطر مخاطبة الجمهور، كما ذكر سابقا، يكمن سببها دائما في التحضيرات التي تسبق عملية المواجهة نفسها. فمن لا يملك تصورا واضحا يصبح أسيرا لعواطفه، التي لا توفر للشخص المعني أي نوع من أنواع الثقة والطمأنينة. وفي هذه الحالة فإن الوقوف للخطابة بدون تدريب وبدون تحضير يعني مجازفة بسمعة الشركة وربما بأسعار أسهم الشركة في تداولات البورصة.

وليس الفشل الكبير وحده هو الذي يستدعي الاستعداد والتحضير. فالثقة أيضا لا يمكن أن تتوافر عندما يكثر المديرون الألمان من الإدلاء بالأحاديث وإلقاء الخطابات بصورة تسبب ضيقا ومللا للجمهور.

هنالك نقص في كل شيء. فأولا هناك نقص في الاستجابة لتوقعات الجمهور، إذ عندما يقول عضو مجلس إدارة إحدى شركات الأدوية مثلا، بعد أن يكون بعض المرضى قد ماتوا بسبب تعاطي الدواء الذي تنتجه شركته، إن الآثار الجانبية لهذا الدواء يمكن أن تؤدي إلى الوفاة، قد يكون ذلك حقيقة، غير أنه لا يجوز التعبير عن مسألة من هذا النوع بمثل هذا الإيجاز.

وهناك ثانيا نقص في معرفة فن الكلام، وقبل كل شيء، الكلام البسيط السهل الاستيعاب والإدراك. والعودة للأسلوب الشفوي الدارج ليس بالأمر الهين بعد سنوات من تعاطي لغة الاستراتيجيات. وقد يقوم مدير العلاقات العامة بإعداد نصوص للمدير، ومراجعة هذه النصوص معه، لكي يتبين فيما بعد أن هذا لم يكن كافيا، بل لم يكن له أي أثر أيضا. والجميع يعرف أن الأسباب دائما هي الأسباب ذاتها حيث نادرا ما تكون ثمة أسباب فردية خاصة.

والذنب، ثالثا، يرجع إلى أكوام الرسوم البيانية ومخطوطات الخطابات، التي لا تلبث أن يلقى بها جانبا، وإلى صيغ الأسئلة والإجابات التي لا تقرأ ولا تظهر كملحق في الخطابات. وغالبا ما لا يتوفر ثمة متسع من الوقت للتدريب والتجريب. ولنبدأ الآن بعملية التدريب.

إن كوادر كثيرة في الشركات التي يشملها مؤشر داكس والشركات الأخرى المتوسطة إلى كبيرة الحجم تعنى بمسألة مواجهة الجمهور: فهناك خبراء الاتصالات في هذه الشركات بالإضافة إلى مديري العلاقات العامة والوكالات الإعلانية وكتاب الخطابات ومساعدو المديرين. وفي نهاية هذا الطابور يجيء المدرب التنفيذي. وهناك العديد من الحالات التي تستوجب الاستعداد والتحضير : كتقديم العروض، والمناسبات الداخلية، والخطابات الخارجية، وجلسات الحوار والمناقشة، والكلمات التي تلقى في الحفلات والولائم من كل نوع، والمعارض، والنقاشات المالية. وفي هذه الحالات يجب أن يجري التحضير مبدئيا لكل مواجهة خطابية مع الجمهور .

ويجري تدريب كبار الإداريين لكي يجتازوا هذه التجارب ولكي يقوموا بأدوارهم خير قيام، وهذا ليس بالأمر الجديد. فمنذ مطلع التسعينيات من القرن الماضي، عندما انتشر ما يسمى ( التدريب الإعلامي ) ولقي رواجا أصبح كبار القادة الإداريين الألمان مستعدين لذلك. ولكن التدريب لم يكن يجري دائما بطريقة احترافية حيث إن التدريب على يد صحافي من الصحافيين مثلا ليس كافيا. إن المسؤولين الذين كانوا يتعاقدون للحصول على الخبرات التدريبية اللازمة، أي رؤساء أقسام الاتصال وأحيانا نادرة رؤساء أقسام الموظفين، يتطلبون أيضا تدريبا على الخطابة. كما يتطلبون في كثير من الأحيان التكتم والسرية، وهو ما قد تغير في هذه الأثناء.

وغني عن القول أن الخطابة التي يكون النجاح حليفا لها هي نتاج عمل تحضيري مسبق. فحتى في المناسبات التي تتطلب إلقاء كلمات روتينية كاجتماعات الهيئات العمومية أو المؤتمرات الصحافية تتطلب إجراء تجارب وتحضيرا ت مسبقة. والمهم قبل كل شيء ألا يكون أسلوب الخطبة آليا في الإلقاء وإنما يجب أن يكون نابعا حقا من شخص المتكلم ومعبرا عن قناعاته. وهذا لا يمكن أن يتحقق إلا إذا شارك الإداري ذلك الخطيب مشاركة فاعلة في إعداد خطبته. ومن الجدير بالذكر أن تدريب الإداريين على الخطابة يتضمن موضوعات مثل القدرة على توصيل الأفكار، وأسلوب التعبير، ومفاهيم الشعارات والنبرة الخطابية.ثم بعد ذلك تجيء مسألة الوقوف في مواجهة الجمهور والحركة في الحيز المعطى.

إن التدريب الحديث على الخطابة والإجابة على الأسئلة ينطلق دائما من المضمون، ففي علاقة جدلية بين بناء الحجة والعمل على الملاحظات يجري التدريب على الأداء وقوفا، وجلوسا، على خشبة المسرح، في تبادل الأحاديث وأمام عدسات الكاميرا. ومن أجل ذلك يلتقي المدرب والعميل في الاستديوهات التلفزيونية، وغالبا في غرف الفنادق. وفي عمليات التدريب المتقدم، لا يعلن لمن في الخارج ماذا يدور في الداخل وبشكل خاص مع من في الداخل.

وعوداً على بدء. فخلف العثرات يكمن ما هو أكثر من مجرد تصدع شبكة التواصل في الشركة، حيث إن الفشل في الأداء التعبيري ليس سوى القشرة السطحية للظاهرة. والقاعدة تقول: " البعض يملك الموهبة، وعلى البعض الآخر أن يتدرب ". إن وقوف كبار المديرين خطباء أمام الجمهور ليس مجرد مسألة ذات صلة بالخصائص الفردية أو مسألة لغوية. فالمرء لا يستطيع أن يعطي إلا بقدر ما يتوافر أمامه من نصوص قام بإعدادها المختصون في مهارات الاتصال. أما أن الاستشارات الألمانية في مجال العلاقات العامة تكاد تنحصر في إنتاج النصوص، فذلك هو لب القضية: حيث أصبحت العلاقات العامة مجالا للصحافيين السابقين. ولكن المدير الذي يريد أن يواجه الجمهور بنجاح ليس بحاجة إلى نصوص معدة، ورسوم بيانية بقدر حاجته إلى رؤوس أقلام وعناوين ناطقة، وخطط للمواجهة وبيانات مناسبة للخطابة وللرد على الأسئلة، وهو ما لا يمكن أن يكون متاحا إلا من خلال التدريب. ويمكن أن يتم إنجاز المهمة من دون نص جاهز وإنما بالاعتماد على رؤوس أقلام فقط، وذلك باستثناء ما يلقى من كلمات في اجتماعات الهيئات العامة للشركات.

إن كشوف رؤوس الأقلام يجري ترتيبها قبل وأثناء التدريب على أساس الموضوعات، وهكذا يجري تطوير نماذج لتبادل الأسئلة والأجوبة، وبهذا أيضا يجري التحول من المضمون إلى الشكل. وفي المحصلة النهائية يستطيع الإداري أن يوصل من خلال خطابه ما أرادت له الشركة أن يوصله، ولكن دائما بالأسلوب الشخصي المميز. أما أن هذا يتطلب جهدا ومعاناة في التعلم بالنسبة لناقل الرسالة فهو أمر طبيعي وهو ما يشكل جزءا من المهمات الوظيفية وأداء الأدوار.

الكاتب هو كبير المدربين في تقديم الاستشارات الخطابية لكبار الكوادر الإدارية في مؤسسة (المديرون التنفيذيون الخبراء) في فرانكفورت

الأكثر قراءة