نجمٌ جميلٌ في سماء بلادي!
تلقيت مع أسرة تحرير جريدتنا "الاقتصادية" ونخبة من كتابها دعوة كريمة من المهندس محمد عبد اللطيف جميل إلى لقاء تعارف وحوار حول بعض من قضايانا وهمومنا الاقتصادية. حضر اللقاء من جانب "الاقتصادية" رئيس تحريرها المتألق أخونا أبو نواف وبعض نوابه، والإخوة مديرو التحرير في مكاتب جدة والدمام، كما حضر من كتاب الجريدة الزملاء الدكتور ياسين جفري، والدكتور عبد الرحمن السلطان الذي سعدت بلقائه لأول مرة. فيما حضر من جانب شركة عبد اللطيف جميل صديقنا وشاعرنا الدكتور سعد بن عطية الغامدي النائب الأول لرئيس الشركة، وإبراهيم باداود مدير برامج الشركة لخدمة المجتمع.
بدأ المهندس محمد جميل اللقاء مستفسرا من الجميع عن مدى وجود دراسة علمية موضوعية مفصلة عن سوق الأسهم السعودية، من حيث أعداد وأنواع المتداولين، وحجم ضحاياها ومقدار خسائرهم، وآثارها ذلك على مستوى معيشة الناس في المجتمع، وذيول كل ذلك على حيوية النشاط الاقتصادي والتجاري في السنوات المقبلة، والسبل العملية الكفيلة بتوعية الناس بشدة مخاطر هذه الأسواق تجنبا لتكرار هذه المأساة الوطنية. وقد اتفق الجميع على افتقارنا لمثل هذه الدراسة، فشدد المهندس محمد جميل على أهمية مثل هذه الدراسات التي تتوصل إلى الحقائق كما هي في الواقع. واقترح على رئيس التحرير أن تتبنى الجريدة رعاية مثل هذه الدراسات عن طريق تكليف إحدى المؤسسات الاحترافية العالمية المتخصصة في جمع المعلومات واستقصائها كمؤسسة قالوب Gallup للقيام بهذه المهمة. واستطرد مقترحا على الجريدة أن يكون لها أيضا نافذة يومية في الصفحة الأولي تعرض عددا من الحقائق عن اقتصادنا بلغة الأرقام، كما تفعل جريدة "يو إس إيه تودي" USA TODAY .
كان هذا مدخلا ليتدفق المهندس محمد ويسهب في بسط فكرته المهمة عن مدى حاجتنا الماسة لجمع المعلومات وتصنيفها ليس فقط عن سوق الأسهم، بل عن جميع ما يتعلق بأحوالنا وقضايانا المعيشية، لأن مثل هذه المعلومات هي الطريق الصحيح الذي يجب أن ننطلق منه لتبني السياسات الملائمة لعلاج مشاكلنا المختلفة سواء منها الاقتصادية أو الاجتماعية. كان الرجل يتحدث من واقع خبرته الواسعة في المجالين التجاري والاجتماعي، ويسهب في ضرب الأمثلة وتوضيح الأفكار.
سمعنا من الرجل الجميل كلاما جميلا جدا. كلاما أدخل السعادة على قلوبنا وأحيا الأمل في نفوسنا. كان الرجل يتكلم بروح المواطن الصادق المخلص لبلده ومجتمعه. كان يتكلم بلغة علمية وعملية دقيقة ورصينة، لا لغة عواطف وعموميات. أحسست فعلا أن الرجل يحمل هم مجتمعه عملا لا قولا. "محمد عبد اللطيف جميل" ليس بحاجة لشهادة أو ثناء. فأعماله تتقدم على أقواله، وسيرته تسبق حضوره، ونجاحه تعدى حدود بلاده وطاف بآفاق الدنيا.
لقد جرت العادة أن يقتصر اهتمام رجال الأعمال على أعمالهم وكيفية تطويرها، وليس في هذا منكر من حيث هو، فكلنا يعلم أن دواعي الكفاءة الاقتصادية تستدعي ذلك، لكن قليل منهم من يعرف مسؤوليته الاجتماعية فيضيفها لأجندته. وهذا الرجل من تلك القلة التي أُوتيت حكمة ً ونفاذ بصيرة. لقد أدرك أن نجاح شركته المدوي يعود بعد فضل الله وتوفيقه وحسن الإدارة، إلي بلده ومجتمعه فهو منهم وإليهم. عرف أن حكمة المولى عز جل اقتضت تدافع الناس بعضهم ببعض، وأدرك أن صحة البنيان من صحة البناء، وأن استمرار نجاحه يعتمد على سلامة مجتمعه. لذلك كان يشعر دائما بمسؤولياته الاجتماعية. وقد رأى مبكرا أن قضية البطالة مؤرقة وخطيرة، فألزم نفسه وشركته بضرورة التصدي لها بالقدر الذي يستطيع. وهو يعرف أنه لا يستطيع أن يواجهها لوحده لكنه مؤمن أن باستطاعة كل قادر من رجال الأعمال أن يساهم بجزء من الحل.
وأجمل ما في حلوله أنها حلول عملية وموضوعية وليست عاطفية أو عشوائية. طلبت منه ذات مرة جمعية خيرية في مدينة عنيزة أن يتبرع لها بحافلة. فقال لهم عندي ما هو أفضل لكم وللمجتمع. أريدكم أولا أن تتعاقدوا مع مواطن سعودي يعمل على هذه الحافلة، ونحن نرتب لتمليكه حافلة يعمل عليها لخدمتكم في ساعات عملكم، كما يمكنه أيضا أن يعمل عليها لدى غيركم في الأوقات الأخرى. لو اكتفينا بمنحكم حافلة فسيعمل عليها سائق أجنبي لساعات معدودة هي ساعات عمل مؤسستكم، وسوف يحول هذا الأجنبي جزءا من مكاسبه لبلده، ولن تتوافر لديه الحوافز لصيانة الحافلة، وبعد سنوات قليلة، ستبحثون عن حافلة أخرى. قلت له لقد أخذت يا أبا فادي بهدي رسولنا، صلى الله عليه وسلم، عندما أرشد السائل إلى تعلم صنعة لأنها خير له من المسألة. هذا لا يعني أن شركته لا تقدم هبات مادية مباشرة، لكنه يدل على مدى اهتمامه برفع كفاءة مؤسسات المجتمع. إن أعماله الخيرية يعرفها القاصي والداني، لكنه يمارسها بكفاءة عالية سواء عند الاختيار أو التنفيذ، لذلك فالنتائج عنده دائما باهرة وناجحة.
لم تتوقف جهود الرجل عند هذا الحد، فقد أسّر إلينا بفكرة فذة متطورة وغير مسبوقة وتبشر بخير عميم. إنه يعمل علي تطوير مشروع يهدف لمساعدة الفتية من الجنسين على إيجاد فرص عمل، سيطلق عليه اسما جميلا (كم لهذا الرجل من اسمه نصيب!) وأستميح القراء الكرام عذرا أني لست الآن في حل من ذكر تفاصيله، بناء على طلبه.
ومن اهتماماته الأخرى تسهيل تمويل المشاريع الفردية الصغيرة. ولأن مثل هذه المشاريع لا تلقى بالا من المصارف التقليدية، فقد عمل هنا وفي بلاد عربية وإسلامية أخرى، على تكوين مؤسسة لضمان القروض. إنه يرتب مع بعض المصارف للقيام بتقديم هذه القروض، وهو يضمنها. وقد وجد بالتجربة أن هذه الفئة من الناس، إذا أُحسن اختيارها، لديها التزام بالسداد أكثر من غيرهم. لذلك فإن هذا الصندوق لا يكلفه شيئا يذكر لأن 97 في المائة من المستفيدين ملتزمون بالسداد. وهو يؤكد أن هناك عددا آخر من رجال الأعمال لديهم الاستعداد والرغبة للقيام بالدور نفسه.
كان أكثر ما أثلج صدورنا هو مشروعه الجميل لخدمة السلام العالمي وتطوير سبل التفاهم والتسامح بين العالم الإسلامي وبقية شعوب العالم. رتب لهذا المشروع بالاتفاق مع إحدى المؤسسات العالمية المتخصصة في استقصاء الآراء، وتعتمد فكرته على إجراء سلسلة مستمرة ومتجددة من دراسات استقصاء الآراء في جميع الدول الإسلامية حول عدد من القضايا المشتركة بين المسلمين وغيرهم. ومنها استقصاء لمعرفة ما يريده المسلمون من الغربيين وما يعجبهم فيهم. ثم استقصاء عما يريده الغربيون منا ويعجبهم فينا. وقد كانت النتائج مذهلة ومفيدة، ومغايرة لما هو سائد بين الناس هنا أوهناك، والمقام لا يسمح باستعراضها، لكنها تبين الأهمية البالغة لاستقصاء الآراء بطرق منهجية.
والشيء الأهم الذي سرنا سرورا كبيرا أن مثل هذه النتائج وغيرها من الحقائق المتعلقة بالإسلام والمسلمين ستصنف وترتب وتعرض على موقع احترافي على الشبكة الدولية للمعلومات (الإنترنت) لتكون مرجعا يعرض الحقائق كما هي خالية من الانطباعات الشخصية الخاطئة, التي كثيرا ما تحفل بها كتابات الصحافيين الغربيين وتتناولها وسائل إعلامهم. بل أكثر من ذلك، فإن هذه الاتفاقية تتضمن إيصال وعرض هذه الحقائق المستقاة بطرق موضوعية واستقصاءات احترافية، إلى أهم ألف شخصية عالمية مؤثرة في العالم من السياسيين والمفكرين والعلماء ورواد العمل الإعلامي، لتقول لهم بلغة علمية هذه هي الحقيقة مجردة من الأهواء، وهذا هو سبيل تحسين التفاهم بين الأمم وترسيخ دعائم السلام العالمي. وقلت له إن من فوائد مثل هذا العمل المؤسساتي المحترف، الذي يستند إلى حقائق علمية مجردة، أن يسمح أيضا بالتقاضي القانوني ضد كل من يلوي عنق الحقيقة عند التصدي للحديث عن المسلمين وعقائدهم.
الأفذاذ من الرجال يغيرون الحياة نحو الأفضل، والمؤسسات القوية الناجحة هي الثروة الحقيقية للمجتمعات. عجيب وغريب أن تغيب مثل هذه الشخصية عن المقابلات بالقنوات الفضائية!