رواية الجسد: غريبة لاستحالتها وعميقة للأسئلة التي تطرحها
الجسد، رواية تعتمد فكرة بنيت على الخيال المتداخل بالنسيج السينمائي في حدود...
وهي من الروايات التي تعتمد أسلوب التشويق العالي الفني، الذي يعتمد كثيراً على المفارقات المتولّدة من الحدث، ثم من الحالة، أو الأسئلة العديدة التي يسألها القارئ ويضيفها بنفسه إلى تلك الأسئلة التي يطرحها الكاتب في كلّ خطوة من خطوات الحدث المتولدة.
يضاف إلى ذلك الأسلوب الأدبي الجميل الذي يبرز لنا جلياً في الوصف الدقيق للتفاصيل، ثم في اللجوء إلى تقاطعات المونولوج الداخلي الذي يستوفيه الكاتب حقه، وهو إنما يقترب به كثيراً من أسلوب (ماركيز)، وبخاصة في المقطع الأول من الرواية، حيث قسِّـمت الرواية إلى ثمانية مقاطع، اعتمد في ذلك على (زمكان) الأحداث، إذا جاز لنا الوصف، أي على مكان وزمان الحدث. وهذا ما سهّل عملية المتابعة للسردية من قبل القارئ.
أكثر من كلّ ذلك، هي الفكرة التي بنى عليها الروائي روايته. فهي أهمّ عناصر التشويق التي تستحوذ على قارئ الرواية. فهي غريبة من حيث استحالتها، وعميقة من حيث الأسئلة التي تطرحها أو يمكن لنا - جميعنا - أن نطرحها، وهذه قد لا تحصى.
إنه لا يطرح فكرتها من أرضية قد تتعلق أو تتعارض مع الثوابت الدينية، أو المفاهيم الدينية. كذلك لا يطرحها من زاويةٍ علميةٍ صرفة، من حيث هي قابلة للتحقيق أو غير قابلة، فهو لا يناقش هذا الأمر. إنما يطرحها كقضية تنعكس على المفهوم الإنساني بمستوييه: الفردي أو الشخصي والمستوى العام الجمعي. ثم يناقشها من خلال عرضه للأحداث والحوارات ومستويات هذه الحوارات، وتعدّد الشخوص، وتنوع الأدوار الحياتية الاجتماعية لهذه الشخوص ونماذجها.
"الجسـد" رواية تتحدّث عن أديب وكاتب مسرحي في الستينيات من عمره، يعيش حياته ضمن تفاصيل هذا المستوى العمري وهواجسه. ثم يلتقي بمن يغريه بالقيام بعملية جراحية - لمّا تزل غير مشروعة قانونياً - لتغيير حياته بالرجوع شاباً يبدأ حياته جديدة. هذه العملية هي عبارة عن زرع دماغه - الذي سيعيش به - في جسد شاب ينتقيه. جسد غير جسده / هو من بين الأجساد الموجودة في ثلاجة المشفى النائي عن الرقابة، حيث يحتفظون بالموتى من الشباب أو الشابات الذين ماتوا حديثاً. حتى إن بإمكان الراغب أن يختار جسد امرأة ليعيش حياة امرأة، ولكن بعقله الأساس، أي عقله هو.
وتقوم هذه الشخصية في الرواية بإجراء تلك العملية فيختار جسد شاب.. وكان قبوله خوض تلك التجربة مشروطاً بمدة ستة أشهر يمكنه بعدها العودة إلى جسده الأول أو التغيير. فقبل العملية قال لزوجته إنه مسافر لمدة ستة أشهر. وعليه، لن يكون قادراً على الرجوع إليهم من دون الجسد الأول...
وهنا تبدأ الأحداث والمشكلات والأسئلة - التي تتبعها - بتشكيل سياق الرواية.
حيث إنه سيعيش صراعاتٍ ومشاكل جديدة. وبخاصة أنّه قد يعيش تبدّلاً (فزيولوجياً)، فهل هذا التغير (الفيزيولوجي) سيؤثّر على نمط الحياة الفكرية أو القدرات العقلية والميول والرغائب التي عاشها ما يربو على ستين سنة؟ فهل سيدفع ذلك إلى الحنين إلى الهويّة. إلى الشخصيّة التي اعتادها؟
" لقد اشتقتُ إلى نفسي. واشتقتُ أيضاً إلى سروري ومتعتي". ص145
كذلك سنرى استحقاقاتٍ واستحالاتٍ كثيرة وعديدة، ومن منظوراتٍ أخرى للحياة، يطرحا الكاتب على امتداد العمل الروائي. فمنها ما له خصوصيات مجتمعية وإنسانية. من أبرزها ربما، حين نقف أمام فكرة الموت.
ولكن بلا شكّ، إنْ خرجَ المرء من جلده سيخسر هويّته، وحتى سيخسر نفسه. فالعالمُ مليءٌ بالأوبئة خارجنا. فقط، الذي بلا مُثلٍ ولا تاريخ إنساني محترم هو الذي يمكنه أن يعيش خارج ذاتهِ بلا مبالاة. والبشر أصناف. ولهذا - باعتقادنا - اختار الروائي شخصيته ( بطل الرواية ) ليكون من النخبة الواعية والمثقفة، فاختاره كاتباً أديباً. ليضعنا أمام استحقاقات المنطقِ وازدحام الأبعاد والرّؤى والإشكالات حين تُطرحُ الأسئلة، وتتأكّد الأفخاخ...
ثم تتابع الأحداث المليئة بالمفاجآت، ويصادف كثيرين ممن سلكوا مسلكه ويتعرفون على بعضهم. فتزداد معها الأحداث والمشكلات مستحيلة الحلّ. فيقرّر العودةَ إلى جسده الأول. جسده الحقيقي، بعد انقضاء فترة التجربة مع الجسد الجديد. وحين يعثر على المكان الغامض للمشفى هارباً ممن كانوا يريدون سلبه جسده المثالي، يدخل فلا يجد شيئاً! كان مهجوراً وقد نُهب منه كلّ شيء. حتى الأجساد.
وهنا، لم يعد بمقدوره العودة إلى حياته السابقة:
" كنت غريباً على الأرضِ، نكرة، لا شيء، لا أنتمي إلى أيّ مكان، جسدٌ وحيد، محكوم عليه أن يبدأ من جديد في كابوس الحياة الأبدية".
(حنيف قريشي). روائي ولد في عام 1954 في إنجلترا لأب باكستاني وأم إنجليزية، ولقد عانى الكثير من التمييز العنصري في بداية حياته بسبب لون بشرته السمراء. وهو اليوم من الروائيين الكبار والمبدعين المتميزين، له: " وذا الضواحي"، وله "الحميمية".