الأدب الفصيح .. والشعبي .. من أقصى الآخر؟أكثر بقاء
في الحين الذي نعيش فيه حركة تطويرية على المستوى الأدبي ونؤسس لمرحلة ثقافية جديدة تطغى على الساحة أسئلة لا يمكن الإجابة عنها إلا بمواجهتها بشكل موضوعي وصريح، في ظل واقعنا الذي باتت فيه حرية الرأي مكفولة وأصبح الحوار ضرورة ومطلباً أساسيا.
الحراك الثقافي النوعي الذي شهده الوسط الثقافي أخيرا جاء ترسيخا لهذا الجانب، ومثل استجابة مقدرة لشريحة كبيرة من المثقفين الذين طالبوا برسم استراتيجية جديدة للعمل الثقافي لكن البعض ما زال يرى أن التغيير الشكلي والتنظيمي لا يعوّل عليه كثيرا في ظل بقاء الكثير من القناعات دون تغيير، وليس من صالح الحركة الثقافية الجديدة أن تبقى رهينة تصورات خاصة لا تقبل النقاش أو التعاطي مع الآخر بينما سياساتها المعلنة تتحدث عن الانفتاح والتبادل الفكري والمعرفي.
قضيةٌ مهمة عادت مجدداً لتطرح الأسئلة بعد تعيين مجالس إدارات الأندية الأدبية وخلو قوائمها من الأدباء أو المهتمين بالأدب الشعبي على الرغم من وجود الكثير من الرموز الثقافية التي أسست لهذه الثقافة الشعبية مشهدها القائم بذاته والمدعوم بقبول اجتماعي وجماهيري لا يمكن إنكاره.
والتساؤل عن هذا الموضوع يعيدنا إلى الموقف المبدئي من مسألة العامية وكونها لا تحظى بأي شرعية للتمثيل الإعلامي والثقافي، لكن على الجانب الآخر أليس بالأدب الشعبي من القيمة الفكرية والإبداعية ما يكفي ليضعه بعين اعتبارنا إذا تذكرنا القصائد الخالدة والتجارب التي صنعت لنا رموزا وأعلاما لا نختلف عليهم؟ أليس هو أجدر بالدراسة والتأمل من آداب الثقافات الأخرى؟
من ناحية أخرى هناك تساؤل مطروح حول ما يحدث للغة الفصحى من تغييب واضح في عدة مجالات إعلامية وثقافية واجتماعية، حتى لعب ذلك دورا في تصويرها وفق قناعات نمطية معقدة، فأصبحت محاطة بهالة من النخبوية المصطنعة التي حالت دون وصولها بالشكل المطلوب وهو ما شكل فيما بعد قضية خطيرة تتعلق بهوية مرجعيتنا الثقافية الأهم، وهي اللغة.
تباينت الرؤى بين من يعتبر الآخر امتدادا له وبين من لا يعترف بالآخر أصلا, بل إلى درجة أن البعض لا يقبل مجرد المناقشة في هذه القضية.
وبينهم جميعا يبقى السؤال .. الأدبان الشعبي والفصيح .. من منهما أقصى الآخر؟
الأستاذ الأديب عبد الله بن خميس: هو أدب التوثيق والتاريخ
يؤكد الأديب المعروف عبد الله بن خميس الدور التاريخي للشعر الشعبي من خلال حفظه الموروث على مر الأجيال، فيقول :(لولا ما حفظه هذا الأدب الشعبي لهذه البلاد طوال القرون السبعة الماضية لضاع تاريخٌ وانطمست معالم واختلطت أنساب وفقدت الأمة ما يربطها بماضيها وذويها. وهل تصورت أن حكام هذه الجزيرة طوال القرون السبعة الماضية وقادتها وفرسانها وطبقاتها العالية وذوي الحل والعقد بها يقرضون هذا الشعر ويروونه ويتأثرون به ويثيبون ويعاقبون عليه وهو ديوانهم وأثير مجالسهم، إنه معقلٌ من معاقل الفصحى حفظ عليها ثروة لا يستهان بها من صميم مادتها كانت لولاه - بعد الله – في عالم الفناء.
الحميدي الحربي الشاعر والإعلامي المعروف وأحد رواد ساحة الأدب الشعبي في المملكة تناول القضية وفق رؤية متوازنة حاول من خلالها توضيح مفهوم تعرضه للكثير من التجاهل رغم ما يختزله من قيمة أدبية وتاريخية ، يقول " في اعتقادي هذا يأتي ضمن التجاهل المستمر الذي يتعرض له الأدب الشعبي عموما، ونظرة غالبية المثقفين على أنه أقل من أن يهتم به رغم أن الواقع هو العكس تماما، والمتعصبون للفصحى ما زالوا يحملون رؤية خاطئة تجاه الأدب الشعبي ويعاملونه على أساسها، مما أدى إلى تكبرهم عليه بشكل غير مبرر ومع الوقت تحول الأمر إلى فريقين وضع كلاهما نفسه في مواجهة الآخر، وأضاف: لماذا لا ينظر الفصحويون إلى الأدب الشعبي باعتباره موروثا تاريخيا، وباعتباره أدبا عربياً سعودياً نشأ في العصور المظلمة فشكل مرحلة ثقافية جديدة؟ كان الأحرى ونحن في مرحلة ثقافة الحوار وعدم إقصاء الآخر أن يندرج ذلك أيضاً على الشعر الشعبي".
وختم قائلا "الكثير من الأكاديميين, للأسف, يعودون بقناعات جديدة تجعلهم يتشدقون بالعبارات الأجنبية ويرون من العيب الاهتمام بموروثهم الشعبي, وأنا متأكد أنهم لو درسوا الأمور بموضوعية ومعرفة وبحثوا عن الجمال بصدق وبإنصاف سيكتشفون أنه موجود في الشعر النبطي".
الشاعرة دعجاء الجزيرة – شاعرة شعبية - تناولت الموضوع من مختلف جوانبه فقالت "نحن لا نختلف على كون اللغة الفصحى هي لغة القرآن وأساس ثقافتنا الأصيلة, لكن نحن كبقية الشعوب لدينا تراثنا الوطني الخاص الذي نعتز به, والذي ترسخت من خلاله قيمنا الإنسانية والتاريخية، المشكلة هي أن أدباء الفصحى يسيطرون على المشهد الثقافي ويمارسون الإقصاء تجاه الأدب الشعبي رغم أنه متجذر في ذائقة الناس وفي لغتهم وحياتهم اليومية، ولولا سهولته وقربه من طبقات المجتمع المختلفة لما حقق كل النجاح والقبول الجماهيري الذي نشهده, بل إنه تعدى في شعبيته الأدب الفصيح, والصحف والمجلات المتخصصة والأمسيات تؤكد ذلك بكل وضوح". وأضافت الشاعرة "نحن نريد منهم أن يكونوا منصفين وحياديين في الطرح وإذا كانوا يزعمون أننا أقل منهم فلماذا لا يأتون للارتقاء بنا؟ هم لا يريدون الاعتراف بنا كواقع أدبي قائم ولا يقبلون حتى مجرد النقاش معنا، وعموما الأدب الشعبي سيبقى قائماً بثقافته الأصيلة وإبداعه الجميل وبوصوله إلى المجتمع وحصوله على قبول الناس وقلوبهم".
الشاعر خالد قماش من الذين كتبوا القصيدة الفصيحة والشعبية وقد تحدث عن القضية من جانبيها الأدبي والاجتماعي, معتبرا أن غياب الشفافية في التعاطي مع الأدب الشعبي كان سمة بارزة لدى البعض المثقفين، يقول قماش:
"هذي مشكلة متناقضين، بعض الأدباء يسمعون القصائد الشعبية في جلساتهم ويستمتعون بالأدب الشعبي في الخفاء، ويشتمونه في المنابر الإعلامية. وإن كان هذا الحكم غير معمم، فهناك نماذج رائعة مواقفها واضحة في الصحافة وفي الجلسات الخاصة، هذه الإشكالية تتجسد هنا في المجتمعات الخليجية, في مصر مثلا أو لبنان لا يوجد تصنيف يفصل بين شاعر شعبي أو شاعر فصيح ، بل هناك تقييم لشاعر مبدع أو غير مبدع".
وقد أرجع قماش هذه الظاهرة إلى عوامل سيكولوجية وأيديولوجية متأصلة لدى بعض فئات المجتمع، وقال "للأسف إن مجتمعنا متناقض في رؤاه الأدبية، ولا يفصل بين البطاقة الشخصية والبطاقة الشعرية. كثير من النقاد يجاملون على حساب مصداقيتهم، وقد يميزون بين شاعر شعبي وآخر رغم تشابه التجربة، في اعتقادي أن نقادنا ما زالوا للأسف يقبعون تحت الصخرة!!".
وختم قماش برؤية شاملة لتقييم العمل الأدبي دون إخضاعه إلى معايير أو قيود وقال "لا شك الشعر الحقيقي هو الأولى بالوصول والجماهيرية بغض النظر عن لهجته أو لغته، والقيمة الفنية موجودة بلا شك في الفصيح وفي الشعبي". وفي تعليقه على انتشار مجلات الشعر الشعبي علق قائلا "المجلات الشعبية للأسف في معظمها لا تمثل الأدب ولكنها أصبحت أقرب إلى (قل الأدب)، وأعتقد أن قلة الوعي الاجتماعي وانحدار الذائقة لعب دورا في إنجاحها بالشكل الذي نراه".
علي المفضي الشاعر والإعلامي يعتبر من رواد ساحة الأدب الشعبي, وأكد لنا في بداية حديثه أنه من عشاق الشعر الفصيح حيث بدأ الكتابة ومنه انطلق إلى الشعر الشعبي. يقول علي: "لا شك أن الشعر الفصيح هو الشعر الحقيقي وكان منبته في الجزيرة العربية, وهذا معروف تاريخيا، أما دخول العامية عليه فهذا ناتج عن توجيه الإعلام والاهتمام الكبير الذي وجده الشعر النبطي الذي أدى إلى تطوره وشعبيته الاجتماعية المتزايدة، إلى جانب الإبداع الجميل الذي ظهر فيه". ومضى قائلا: "أعتقد أن أي فن يجد اهتماماً لا شك سينجح وخذ الفن التشكيلي مثالا، والشعر الفصيح لو وجد اهتمام نظيره النبطي نفسه فهو لا شك سينجح بل أكاد أقول إن أغلب الشعراء الشعبيين اليوم كان يمكن أن يكونوا جميعاً شعراء فصحى، وعموما أنا أرى أن الشعر الشعبي ليس إلا امتدادا طبيعيا للشعر الفصيح، وأن الإبداع الجميل يبقى جميلاً .. أياً كان".
الشاعر إبراهيم الوافي صاحب التجربة اللافتة في وجهي عملة هذا التساؤل تحدث قائلا "الشعر المحكي ومنذ عقدين من الزمان تقريبا أحدث تطورا مذهلا في تركيبته ورؤياه ، فهو لم يعد شعر العوام كما كان يوصف، لكنه الآن شعر المثقفين الذي جاء بلغة الحكي، وأعتقد أن مشكلته الوحيدة التي تحد كثيرا من مكانته هي اصطدامه بقواعد الإملاء العربي أثناء الطباعة, إذ إن كتابته وتداوله مطبوعا تحدث فجوة كبيرة بين الشاعر والمتلقي، فهو أمام خيارين كلاهما مؤثر جدا إما أن يلتزم بقواعد الكتابة المرسومة سلفا للكلام الفصيح ويفقد بالتالي الشعر كثيرا من هيئته وكنهه وإما أن يخترق قواعد الإملاء وينطلق لكتابة الصوت, وهذا سيؤثر بشكل سلبي كبير في اللغة ، وأرى أن الاكتفاء بالدواوين الصوتية حلا وسطيا مناسبا لهذه الإشكالية، ولا سيما بعد تجاوزه عائق الإقليمية عن طريق الغناء".
الأديبة عبير الأنصاري تقول: "كان السؤال الذي يُطرح سابقاً أيهما أفضل؟ وكانت الإجابة تعني المزيد من المعارك الكلامية في محاولة كل طرف حيازة موقعه من الإجابة إلى أن أدرك الجميع أن كلمة الأفضل لم تعد عملية في التعامل مع مجال يخضع للذائقة بالدرجة الأولى كما أن مرتكزات التفضيل وشروطه تختلف من شخص إلى آخر .. ومن موقف إلى آخر.
وفي رأيي .. يجب ألا يكون هناك بين الفنون الإبداعية أي مجال للتفاضل.. مادام الهدف الأول من الإبداع هو تحقيق الجمال وفتح نوافذ للدهشة سواء كان الإبداع متعلقا باللغة كالشعر والسرد أو بالصورة كالتشكيل والتصوير .
لكن لنسأل أيهم أكثر حضورا؟
إعلاميا وجماهيريا الشعبي، وكل تلك المجلات التي تعتني به إلى حد الصراخ تدل على ذلك, وهذا طبيعي فالمجلات انعكاس لذوق المجتمع. يتأثر به ويسعى إلى إرضائه, خاصة أن معظمها مجلات تجارية قبل كل شيء. لغتها الربح أو الخسارة, فتبحث بالتالي عما يجذب القارئ وما يثير اهتمامه, أو قد تكون المجلة لشاعر شعبي يعشق الأضواء ويبحث عن طريق مضمون للانتشار. في كل الحالات كان الشعر الشعبي هو الاختيار الإعلامي الأقوى باعتباره الأكثر قبولا لدى عامة الناس ، ومع هذا ورغم أن الشعبي هو الأكثر حضورا إلا أن الفصيح هو الأكثر بقاء.
فشهرة الشاعر الشعبي سطحية ومؤقتة على المدى القريب فقط, فاللغة المحكية تتغير نتيجة حتمية للتغيرات الثقافية التي تمر على الشعوب, وتضيع مع تغيرها الكثير من القصائد والكثير من الشعراء، أما اللغة الفصيحة فهي صالحة على امتداد الزمان ومحفوظة بحفظ الله القرآن, لذا فإن الشاعر الفصيح هو المؤهل لأن يتجاوز حدود الزمان, بل حتى المكان, فهو يحمل تأشيرة الدخول إلى كل الأقطار العربية بلا استثناء, ولأجل هذا كان الفصيح هو الحاضر عندما يتعلق الأمر بالتمثيل الإعلامي والثقافي الرسمي، أما حين يتعلق الأمر بالمهرجانات فالاحتفاء يكون للشعر العام ، باعتبار أن المهرجانات احتفال جماهيري يجيء في غالبه ليؤكد خصوصية مجتمع ما. لذا هي تتكئ كثيرا على إبراز اللهجات المحكية كجزء من هذه الخصوصية من خلال الشعر الشعبي.
كل تلك الأفكار والأسئلة وغيرها مطروحة ليس فقط في مجتمعنا بل في كل المجتمعات التي تعاني مثلنا من حالة الانفصام اللغوي، بغض النظر عن الجهل والبداوة أو الثقافة والحضارة.