ما الذي تبقى من تلك الوفرة الوهمية؟
مضى عشر سنوات على اليوم الذي تحدث فيه ألان جرينسبان محافظ البنك المركزي الأمريكي حينها عن وجود ما سماه وفرة لاعقلانية في الأسواق المالية. بعد هذا التحذير الذي أطلقه جرينسبان في الخامس من كانون أول (ديسمبر) عام 1996 استولى الخوف على المتعاملين في السوق لأنهم كانوا يخشون من أن يحاول جرينسبان الحيلولة دون حدوث ارتفاع آخر في الأسهم من خلال زيادة أسعار الفائدة الأساسية وتقليص السيولة النقدية.
ومن الجدير بالذكر أن جرينسبان كان قد قال: " لا يجوز لنا كمسؤولين عن البنك المركزي أن نظل طويلا غير مبالين إزاء احتمال انفجار فقاعة أسعار الأسهم بكل ما يجمله ذلك من آثار على الاقتصاد الحقيقي وعلى الإنتاج وأماكن العمل واستقرار الأسعار". غير أن بنك الإصدار لا ينبغي له أيضا أن يتجاهل الكيفية المعقدة التي تتشابك فيها أسواق الأسهم مع الاقتصاد. ولهذا ينبغي أن يكون الحكم على التطورات في تلك الأسواق جزءا لا يتجزأ من السياسة النقدية.
وفي هذه الأثناء أصبح معروفا أن بنك الاحتياط الفيدرالي الأمريكي لا يرفع أسعار الفائدة بقرارات سريعة متعاقبة، إذ دائما ما كان يتم رفع أسعار الفائدة بالتدريج، ففي آذار (مارس) 1997 تم رفع سعر الفائدة من 5.25 إلى 5.50 في المائة ثم سيطر الهدوء على السياسة النقدية. وبعد ذلك بأكثر من سنة، أي في خريف عام 1997 حرك البنك سعر الفائدة في ثلاث خطوات، وجاء ذلك ردا على بعض الاضطرابات في الأسواق المالية التي كان من بين أسبابها عدم قدرة روسيا على الدفع. أما هبوط أسعار الأسهم فقد حدث فقط عندما فتر الحماس عام 2000 للاقتصاد الجديد في أعقاب خيبة الأمل لعدم تحقق التوقعات التي كانت معلقة على شركات التكنولوجيا المتقدمة.
وبالمثل أصبح من المعروف أن تحذيرات جرينسبان من المبالغة في رفع أسعار الفائدة قد سبقتها نقاشات عديدة في لجنة السياسات النقدية في بنك الاحتياط الفدرالي حول الأوضاع السائدة في أسواق الأسهم، حيث شارك خبراء واختصاصيون من الخارج في تشكيل المواقف. وقد كان من بين الأنصار المدافعين بحماس عن نظرية فقاعة الأسعار لورنس ليندسي، الذي كان ذات يوم أستاذا في جامعة هارفارد، ثم عضوا في إدارة بنك الاحتياط الفدرالي وفيما بعد مستشارا اقتصاديا للرئيس جورج بوش.
ويتبين من محاضر جلسات اللجنة المذكورة، بعد أن تم نشرها، أن ليندسي قد أعرب عن قلقه في شهر أيار (مايو) 1996من " أن الازدهار الاستثماري وارتفاع الأسعار في أسواق الأسهم يغذي بعضها بعضا. " وبعد ذلك ببضعة أشهر، أي في شهر أيلول (سبتمبر) على وجه الدقة، حذر ليندسي بأن توقع تحقيق عوائد في البورصة تصل إلى ما نسبته 11.5 في المائة عبر خمس سنوات هو أحد المستحيلات. وتنبأ ليندسي في هذا السياق بأن: "القارئ لمحاضر الجلسات يستطيع التأكد من صحة توقعاتي بأن الأرباح ستكون بكل تأكيد أقل من التوقعات. " وطالب خلال إحدى الجلسات بأن يقوم بنك الاحتياط الفدرالي بواجباته في الحفاظ على استقرار أسعار السلع والخدمات. ويضيف ليندسي قائلا: "كما في أمريكا في سنوات العشرينات، وكما في اليابان في نهاية سنوات الثمانينات، يكون الواجب الأكثر أهمية بالنسبة لبنك الإصدار هو تنفيس الفقاعة في لحظة ما. "
غير أن جرينسبان لم يتفق إلا بصورة جزئية مع مقولات ليندسي، حيث قال: "أنا أعترف بوجود مشكلة الفقاعة في سوق الأسهم، وهو الأمر الذي لا ينبغي أن يغيب عن ناظرينا. " وقبل أيام من كلمة جرينسبان، كان روبرت شيللر، الاقتصادي في جامعة ييل للنخبة، هو الذي أوضح لبنك الاحتياط الفدرالي بأنه من غير الممكن تفسير تحركات أسعار الأسهم بأدوات التحليل التقليدية، وقال بأن فقاعة مضاربات قد تطورت في هذه الأثناء، ويعود سببها لـ "التصرف اللاعقلاني" للمستثمرين. وأصدر شيللر فيما بعد كتابا بعنوان "المغالاة المنافية للعقلانية".
ويذكر في هذا السياق أن ملاحظات جرينسبان قد أثارت آنذاك نقاشات حامية بين مسؤولي البنوك المركزية في العالم بأسره وكذلك في الأوساط الأكاديمية، ولا تزال هذه النقاشات مستمرة حتى اليوم، وهي تدور حول سؤال: ما هو شكل رد فعل البنوك المركزية، إذا كان لا بد من رد فعل، على التغيرات التي تطرأ على أسعار الممتلكات. والمسألة هنا لا تقتصر على أسعار الأسهم وإنما تطول أيضا أسعار العملات وأسعار العقارات. صحيح أن قيم الممتلكات يمكن أن يكون لها تأثيرها على الاقتصاد الحقيقي.
والسبب هو ما يطلق عليه اسم "أثر الممتلكات": فإذا ارتفعت قيمة بيت من البيوت أو حقيبة أسهم فإن أصحابهما يحسان بأنهما أصبحا أكثر ثراء من ذي قبل. وقد يعني ذلك بالنسبة لهما القدرة على تخصيص مزيد من المال لأغراض الاستهلاك. وبالعكس فإن تراجع أسعار الأسهم أو العقارات لا بد أن يترافق مع تراجع في الاستهلاك لأن المستهلكين أصبحوا في هذه الحالة يحسون بأنهم قد أصبحوا أكثر فقرا من ذي قبل ويودون بالتالي أن يدخروا جزءا من دخولهم. هذا السيناريو هو الذي تدور حوله النقاشات في هذه الآونة في الولايات المتحدة الأميركية حيث يعاني سوق العقار في الأشهر الأخيرة من حالة من البرود بعد أن كان في السابق وفي بعض المواقع، وفقا لتوصيف جرينسبان، يعاني من حالة من الانتفاخ.
وتواجه السياسة النقدية الأمريكية سلسلة من الصعوبات في ضوء تضخم أسعار الممتلكات، فمن ناحية لا يمكن للقيمين على السياسة النقدية أن يكونوا واثقين متى يمكن أن تنشأ فقاعة مضاربات في سوق الأسهم أو في أي قطاع آخر، حيث إن معايير مثل المتوسط السنوي لعلاقة الربح إلى السعر أو علاقة السعر الداخلي إلى الدخل القابل للتصرف لا توفر ما يكفي من مؤشرات يمكن التعويل عليها. ومن ناحية أخرى لا يستطيع المسؤولون في بنوك الإصدار أن يقولوا بكل ثقة ما هو المستوى "الصحيح" للأسعار. فبعكس الحال عندما يسود التضخم أسعار المستهلك لا يوفر مؤشر داو جونز أو مؤشر (S&P-500) الخط الذي يمثل خط استقرار الأسعار. وكل محاولة لاستخدام أدوات السياسة النقدية لتنفيس الهواء من الفقاعة تؤدي لاتهام حماة النقد بسعيهم لتدمير الممتلكات.
وإذا استحضرنا الماضي في فهم الحاضر فإن بنك الاحتياط الفدرالي تحت قيادة بن بيرنانكيه لا يزال على موقفه بأنه ليست لديه أية نية لاستيفاء ضريبة على أسعار الممتلكات، وبدلا من ذلك سيرد بنك الإصدار أيضا في المستقبل بنفس طريقة رده على النهاية المفاجئة لمرحلة الازدهار وما أعقبها من كساد عام 2001: أي بتخفيض أسعار الفائدة بنسبة ملحوظة وتوفير سيولة نقدية إضافية. ومهما يكن الأمر فإن على بيرنانكيه والعاملين معه أن يستفيدوا من دروس تلك المرحلة التي فتحوا أثناءها مضخات النقود في الوقت الذي بدأت فيه الدورة الاقتصادية بالصعود مما أدى لارتفاع كبير في أسعار العقارات وهو ما أصبح يشكل ‘ في هذه الأثناء، مصدرا لقلق كبير.