استراتيجية معالجة الفقر
البنك الإسلامي للتنمية، مؤسسات برنامج الخليج العربي لدعم منظمات الأمم المتحدة الإنمائية (أجفند)، صندوق التنمية الصناعية، صندوق التنمية العقارية، الصندوق الخيري الوطني، والجمعيات الخيرية.
جميعها مؤسسات تنموية غير ربحية تتباين في نوعية شريحتها المستهدفة، وتتشابه في سعيها إلى تحقيق التنمية البشرية. لم تتمكن بعض هذه المؤسسات من تحقيق هدف التنمية البشرية فحسب، وإنما تمكنت من تحقيق عامل آخر لا يقل أهمية عن الهدف الأول تمثل في الاستدامة في تحقيق التنمية البشرية.
يثير التباين بين إنجازات المؤسسات التنموية غير الربحية، وانعكاسات تواضع إنجازاتها على شرائحها المستهدفة العديد من التساؤلات حول كفاءة آلية عمل هذه المؤسسات، ومدى الحاجة إلى إعادة النظر في طبيعة تمويلها، واستثماراتها.
منبع هذه التساؤلات نجاح البروفيسور محمد يونس في تطوير آلية عمل لمؤسسته التنموية غير الربحية، مصرف جرامين، في معالجة الفقر في واحدة من أقل اقتصادات العالم تواضعا، بنجلادش.
حيث لم ينحصر تنفيذ استراتيجيته الفريدة في قطاع القروض الصغيرة عن طريق مصرف جرامين فحسب، وإنما تعدته لتشمل قرابة الخمسة عشرة منشأة تنموية غير ربحية تسعى في مجملها إلى محاربة الفقر في بنجلادش، وتحقيق التنمية البشرية المستدامة، منها على سبيل المثال، صندوق جرامين الخيري، جرامين للطاقة، جرامين للاتصالات، جرامين للتعليم، جرامين للهواتف النقالة، جرامين لخدمات الإنترنت، وجرامين لصناعة ملابس.
حظيت استراتيجية البروفيسور محمد يونس لمحاربة الفقر بتقدير العديد من الهيئات والمؤسسات المحلية والدولية عندما منحته العديد من الجوائز التقديرية، كوسام بنجلادش من الدرجة الأولى عام 1987، وجائزة الغذاء العالمية عام 1994م، وجائزة "اليونسكو" للتربية والتعليم عام 1996م، وجائزة سيدني للسلام عام 1998م، وجائزة سيئول للسلام عام 2006م، وأخيرا جائزة نوبل للسلام منتصف الشهر الماضي مناصفة مع مصرف جرامين.
نجاح تجربة البروفيسور محمد يونس ومصرف جرامين لا تعني بالضرورة حتمية نجاح إعادة التجربة في منظومة الاقتصاد السعودي. هناك بعض المتطلبات الثابتة يجب توافرها في أي تجربة مشابهة، وأخرى متغيرة بتغير المنظومة الحاضنة للتجربة.
أشار الدكتور مجدي سعيد في كتابه بعنوان "تجربة بنك الفقراء" (القاهرة، مركز يافا للدراسات والأبحاث، 1999) إلى مجموعة من المتطلبات الضرورية لضمان التكرار الناجح لتجربة مصرف جرامين. لعلي أقتبس بعضاً مما ذكره الدكتور مجدي سعيد:
"التركيز الشديد على الفقراء وحدهم، الأولوية للنساء الريفيات الفقيرات، شروط وإجراءات قروض ملائمة تسمح للفقراء بممارسة أعمال مدرة للدخل، أنشطة فردية مختارة من قبل الشخص لتدر دخلاً عليه، مسؤولية تضامنية للمقترضين ودعم متبادل من خلال الادخار الإجباري، قروض صغيرة وسداد أسبوعي، وإمكانية لتلقي قروض جديدة في حالة سداد الأولى، نظام قروض صارم وإشراف لصيق، شفقة بلا صدقات، تشجيع الادخار الفردي، برنامج للتنمية الاجتماعية، تدريب طاقم العاملين على الإدارة العملية الصارمة، حماية لصندوق القروض من التضخم، وإدارة مؤسسية ناجحة تضمن استقرار السياسات بعيدًا عن تقلبات الإدارة الفردية.
أما بالنسبة للمتطلبات المتغيرة، التي ترتبط ارتباطا مباشرا باستراتيجية معالجة الفقر في السعودية وآلية عملها داخل منظومة الاقتصاد السعودي، فإنه من الأهمية بمكان المرور، ولو على عجالة، على تجربتين من التجارب المحيطة بمنظومة الاقتصاد السعودي بهدف تكوين صورة واضحة حول أداء هذه التجارب والجهود. الأولى منظومة الدول الإسلامية، والثانية منظومة الدول العربية.
ألقت تجربة البروفيسور محمد يونس ومصرف جرامين بظلالها على الدول الإسلامية والعربية في محاولة لتكرار التجربة بما يتناسب والمنظومتين الاقتصاديتين الإسلامية والعربية.
حيث قام البنك الإسلامي للتنمية منذ منتصف العام الماضي ببعض الجهود نحو تطوير مصرف تمويل إسلامي متخصص، على غرار بنك طيب البحريني، يهتم فقط بتمويل مشاريع الاتصالات وتقنية المعلومات في دول العالم الإسلامي الأكثر فقرا.
وبالمثل، قام برنامج الخليج العربي لدعم منظمات الأمم المتحدة الإنمائية (أجفند) بجهود مشابهة لإنشاء مجموعة مصارف للفقراء في عدد من الدول العربية كبنك الأمل للإقراض الأصغر في اليمن، وصندوق تمويل مشروعات الفقر في السودان، ومصرف سورية للمشاريع الصغيرة، ومصارف للفقراء في كل من المغرب، موريتانيا، جيبوتي، ولبنان (بنك الرجاء).
من أهم الدروس المستفادة من تجربة البروفيسور محمد يونس في محاربة الفقر وإنشاء مصرف جرامين، ومن ثم مجموعة جرامين، أهمية تحويل آلية عمل مؤسسات الأعمال التنموية غير الربحية القائمة في الوقت الراهن إلى مراكز ربحية من شأنها أن تعتمد على التمويل الذاتي لتتمكن من الاستمرار في تحقيق أهدافها دون الحاجة المستقبلية إلى انتظار دعم مالي من هنا أو هناك، ودون الدخول في تحديات دولية تحول دون استدامة مؤسسات الأعمال التنموية، كالجمعيات الخيرية.
ولعل لنا عبرة في التباين بين سياسة التمويل المتبعة في صندوق التنمية الصناعية وتلك المتبعة في صندوق التنمية العقارية، وانعكاسات كل آلية على استمرارية كل صندوق في تقديم التمويل المناسب لعملائه دون وجود لقوائم انتظار.
تقودنا تجارب البروفيسور محمد يونس، ومصرف جرامين، وجهود بعض المؤسسات الإسلامية والعربية، وآليات التمويل في صناديق التنمية إلى ما أقره مجلس الوزراء الموقر في جلسته الأخيرة قبل عيد الفطر المبارك عندما أقر استراتيجية معالجة الفقر. حيث تحمل الاستراتيجية في طياتها العديد من بشائر الخير والبركة من خلال ما أوضحته من إطار عام لقنوات وبنود الدعم المادي.
وعلى الرغم من أن الاستراتيجية لم تحدد وقتا زمنيا لمعالجة مشكلة الفقر، إلا أنه يجب التوكيد على أهمية تطوير آليات أعمال البرامج والهيئات المندرجة تحت مظلة الاستراتجية كبرنامج الدعم التكميلي، برنامج المساعدات الطارئة، الصندوق الخيري الوطني، والجمعيات الخيرية بما يضمن تحويلها بشكل تدريجي من مراكز استهلاكية تعتمد على الدعم المالي إلى مراكز ربحية تعتمد على التمويل الذاتي، لتتمكن ليس من الاستمرار في مقاومة آفة الفقر فحسب، وإنما في نقل الآفة إلى صفحات التاريخ دون عودة.