ثقة الشركاء الجسر الآمن للتجارة عبر الحدود
كان تصور المستثمرين الأجانب للشركات الروسية مختلفا عما هو في الواقع ، فعندما تمت دعوتهم لعقد اجتماع الهيئة العامة الذي يستطيعون فيه ممارسة حقهم في الاقتراع اكتشفوا أن مكان الاجتماع المقرر هو منطقة تقع في أقاصي سيبيريا لا يمكن الوصول إليه إلا بواسطة الطائرة. وعندما حاولوا الحصول على تذاكر الطيران تبين أن جميع التذاكر قد نفدت منذ فترة طويلة، أما من هم الذين اشتروا هذه التذاكر فمسألة خاضعة للتكهن.
ويستطيع رجال الأعمال الذين يستثمرون أو يتاجرون مع بلدان أجنبية أن يسردوا الكثير من أمثال هذه القصص. وقد أقنع رجال الأعمال عالم الاقتصاد لويجي جويزو وباولا سابينزا ولويجي سنغاليس بالقيام بعملية استقصاء حول مدى تأثير فقدان الثقة والتحامل على التجارة البينية للدول وعلى الاستثمارات، فهل الأحكام المسبقة وانعدام الثقة يشكلان، يا ترى، عائقاً أمام التجارة.؟
ومن المعروف أن توافر الثقة أمر في غاية الأهمية بالنسبة للتجارة الخارجية عبر الحدود، إذ إنه يمكن النظر إليه على أنه مؤشر على صدقية حسابات الشركات: فمن يثق بشريكه التجاري يستطيع أن يستند إلى قاعدة يمكن التعويل عليها لحساب استثماراته دون أن يكون مضطراً لتحمل الإزعاجات المختلفة بما فيها حضور اجتماعات الهيئات العامة في سيبيريا، مما يؤدي لانكماش الأرباح. وقد أصبح من الممكن الآن تحديد هذه الصعوبة التي تستدعي من رجال الأعمال المعنيين المطالبة بعلاوات مخاطرة مرتفعة. غير أن فقدان الثقة يحول بداية دون قيام علاقات تجارية أصلاً، خصوصاً عندما يكون الإجحاف والأذى إزاء الشركاء التجاريين المحتملين كبيرين جدا، وعندما تكون التوقعات من الطرف المقابل مطروحة للتساؤل فإن هذا يؤدي لا محالة إلى تقليص فرص تحقيق الربح.
وبالتالي فإن من الممكن أن يكشف البحث في إحصاءات التجارة وموازين المدفوعات وموازين رأس المال عن نقص في الثقة، أما إذا أدخل المرء مصطلحات رنانة مثل الثقة والتحيز في نماذج الاقتصاد القياسي الهشة فإن كثيراً من الصعوبات تبرز عند ذلك. والسؤال هو: كيف يمكن قياس الثقة؟ وكيف يمكن التمييز بين التحامل والثقة التي تنشأ بين الدول؟.
لقد استخدم الباحثون جويزو، وسابينزا وسينغاليس طريقتين لمقاربة هذه الظاهرة، فأولا التمسوا المشورة من الاتحاد الأوروبي في صياغة استمارة البحث حيث تم توجيه سؤال للمواطنين حول مدى ثقتهم بمواطنيهم الأوروبيين: فهل يثقون بهم كثيراً جدا، أم كثيرا فقط، أم قليلا أم قليلا جدا. وفي الحقيقة أن هذه الأسئلة أميل لأن تكون كلشيهات تقليدية، وهو ما كان متوقعا. وقد تبين، على أيه حال، أن ثقة الأوروبيين بالإيطاليين بشكل عام قليلة، بينما تبين أن السويسريين بشكل خاص أهل للثقة. كما أن الأسئلة الموجهة لرجال الإدارة الأوروبيين تظهر صورة مشابهة: فالثقة بالإيطاليين قليلة: كما أن ثقة الإيطاليين بأنفسهم قليلة أيضا. أما المديرون الألمان فإن ثقتهم بشركائهم التجاريين كبيرة جدا. وفيما يتعلق بالثقة المتبادلة بين الفرنسيين والبريطانيين فقد توصل الباحثون إلى أن مواطني الدولتين لا يثقون ببعضهم البعض.
ولم ينته الأمر عند هذا الحد، فالثقة تتألف من مكونين: من الانطباعات المسبقة كما في حالة الإيطاليين، ومن عوامل تنشأ بين الدول مع مرور الزمن مثل الثقافة المشتركة أو العداءات التي تعود لقرون سابقة كما في حالة الفرنسيين والبريطانيين. وقد قام الاقتصاديون في المقاربة الثانية ببحث هذه الخصائص التي تقرر مدى الثقة التي يمكن أن تنشأ بصورة متبادلة بين الدول. وهنا يصل جويزو وسابينزا وسينجالس إلى الاستنساخ بأن ثمة مؤثرات مختلفة: فاللغة المشتركة تنمي الثقة، كذلك النظم القضائية المتشابهة، والدين المشترك، والتشابه في الجينات. أما الحروب التي خاضها الشركاء التجاريون فإنها تزيد من حجم سوء الظن.
وفي الخطوة الأخيرة بحث الاقتصاديون في مدى تأثر التجارة والاستثمار بهذه الثقة بين الدول المعنية. وكانت النتيجة واضحة: إن مدى سوء الظن وفقدان الثقة بين مواطني دولتين من الدول يؤثران إلى حد بعيد في حالة العلاقات التجارية، والاستثمارات المباشرة، والحقائب الاستثمارية، وهذا التأثير لا يمكن أن يكون سوى تأثير سلبي.
غير أن التقديرات تشير إلى أن ثمة مخرجا من معضلة الثقة هذه. إن تأثير التحيز المعيق للتجارة يرجع إلى حقيقة أنه كلما توافرت للمرء معلومات عن البلد المعني ازدادت ثقته بهذا البلد. وبهذا الاستنتاج يتضح أن توافر الثقة هو بالفعل العامل الذي يساهم مساهمة جيدة في تطوير التجارة الخارجية. أما في حالات مثل حالة شريك تجاري كفرنسا يرى أن الشريك الآخر، بريطانيا على سبيل المثال، يدأب باستمرار على وضع العراقيل أمامه، فإن توافر المزيد من المعلومات لن يجدي نفعا. وإذا ما تبين سوء النية فلن تؤدي المعلومات إلى توسيع نطاق التجارة، بل على العكس من ذلك يمكن الافتراض بأن مزيدا من المعرفة بالشريك التجاري المكروه سيؤدي حتما لمزيد من تقليص الاتصالات التجارية.
ومن الواضح أن العكس هو الصحيح: فكلما تعرف الشركاء التجاريون على بعضهم البعض أصبحت الفرص متاحة إلى خلق التجارة. والدليل الآخر على صحة هذه الفرضية أن الدراسة بينت بأن الثقة بين الشركاء في التجارة وخصوصا في تبادل السلع ذات الموصفات غير الموحدة بالكامل تلعب دورا بالغ الأهمية. ففي الوقت الذي يمكن فيه التمسك ببنود الاتفاقيات في حالة تبادل السلع غير الموحدة النمط تتوافر مساحات واسعة للغش والخداع. ومن يتاجر في هذا النوع من السلع يكون بحاجة أكبر لتوفير الثقة فيمن يتاجر معهم.