برامج استثمار بالمليارات في مجال الأبحاث والتطوير في اليابان
يستعد سايجو هونمي ويجهز معداته ليحصد ثمار ما زرعه. فعلى مدار سنوات جعل هونمي موظفيه الثمانين في شركته للتكنولوجيا المتقدمة (ايليونكس) في مدينة تاما اليابانية يبحثون ويطورون ويدرسون ويجربون. الوقت بالنسبة له لم يكن مهما والتكاليف كانت عالية، ولكن يبدو الآن أن كل الجهود التي بذلت لن تضيع هباء بعد أن دخلت ثمار التجربة في طور النضوج . لقد أصبح هونمي يمتلك الآن مجموعة من براءات الاختراع تعده بمستقبل زاهر.
ومن بين هذه الاختراعات طريقة تصنيع بتكنولوجيا الحبيبات بالغة الدقة، نانو (Nano-technology) ومن خلالها يمكن أسلاك ووصلات ناقلة أرفع وأدق مما هي عليه الآن، كما يمكنه تصغير الأقراص المضغوطة (Compact Disc) إلى حجم لا يزيد على حجم العملة المعدنية الصغيرة وفي الوقت نفسه يمكنها أن تحمل بيانات تزيد عشرة أضعاف الأسطوانة المعتادة. واستخدامات هذه التقنية متعددة، حيث يمكن بها تصنيع كمبيوتر صغير جدا أو تصنيع مشغل الأقراص المضغوطة الرقمية ( دي في دي DVD ) في جهاز جوال مع فترة عرض تصل إلى 200 سـاعة. والنتيجة أن يحمل المستخدم ما يشبه السينما المصغرة في جيبه أينما ذهب . فلا عجب إذن أن يكون الاهتمام كبيرا . ويقول هومني أن مجرد عملية الإنتاج بكميات تجارية ستتولاها شركات أخرى مضيفا إن الإنتاج الواسع ليس من بين أهدافه بل إن هدفه الرئيسي هو الإبداع.
إن هذه الاستراتيجية تجدها في اليابان بوضوح ، فبفضل الحوافز الضريبية التي قدمتها الحكومة قامت شركات عديدة خلال الأعوام الماضية بزيادة ميزانيتها لأغراض التطوير. فقد بلغت استثمارات شركة السيارات العملاقة تويوتا في مجال البحث والتطوير خلال السنة المالية الماضية 755 مليار ين أي ما يعادل خمسة مليارات يورو، فيما كانت قيمة تلك الاستثمارات عام 2001 حوالي 475 مليار ين (3.2 مليار يورو). وكذلك الحال مع شركة الأدوية تاكيدا التي ضاعفت مصروفاتها لقسم البحث والتطوير إلى ما نحو 1.2 مليار يورو. وزادت شركة كانون لتصنيع التجهيزات المكتبية
استثماراتها في ذات المجال إلى ما يقرب من ملياري يورو بعد أن كان هذا الرقم قبل خمس سنوات لا يزيد على 1.5 مليار يورو.
في الحقيقة فإن القفزة الاقتصادية التي شهدتها اليابان خلال الأعوام الماضية هي ليست وليدة الإصلاحات التي انتهجت في أسواق الأيدي العاملة والأسواق الرأسمالية فحسب، بل أيضا ثمرة السياسة المتبعة في مجال البحث والتطوير. وتضع الشركات الخاصة والحكومة على حد سواء التكنولوجيا المستقبلية على رأس قائمة الأعمال في أجندتها، فعلى قمة العديد من الشركات الضخمة لا يتربع محاسبون أو رجال قانون، بل مهندسون وفنيون. من جانبها كانت مساهمة الحكومة اليابانية في هذه السياسة مساهمة فعالة، فقد عملت على إعادة بناء البنيات الموروثة و دمجت حيز الاختصاص في التعليم والبحث مع بعضهما البعض، وجعلت من المنشآت العلمية الحكومية هيئات قائمة بذاتهـا وبدأت في منح الجامعات استقلاليتها المطلقة. بالإضافة إلى ذلك أنشأت الحكومة مجلسا استشاريا لسياسة البحث والتكنولوجيا، ووضعت هيئة المجلس تحت إدارة رئيس الوزراء.
وتحت شعار ( بدون إبداع لا رخاء معيشة ) وهي العبارة التي قالها رئيس الوزراء الياباني الجديد شينزو آبي أطلقت اليابان أخيرا المرحلة الثالثة لبرنامج أبحاث عام كانت قد وضعته من قبل. وفي إطار هذا البرنامج يتربع قطاع التكنولوجيا الدقيقة (micro) والحيوية (bio) وبالغة الدقة (nano) وتكنولوجيا البيئة (environment) على قائمة الأجندة. و خلال سنوات الأزمة الاقتصادية التي شهدتها اليابان لم تتجرأ الشركات ولا الحكومة على استقطاع الاستثمارات المخصصة لمجال البحث والتطوير وذلك على الرغم من الانكماش المالي. هذه الجرأة أظهرت ثمار نجاحها، فالوضع الاقتصادي في البلاد أخذ ينتعش والأرباح بدأت تتصاعد.
وفي كل عام تنفق اليابان ما يزيد على 100 مليار يورو لخدمة الإبداع والتطوير وهذا الرقم يمثل ما يزيد على 3 في المائة من إجمالي الناتج القومي . و في أول برنامجي أبحاث عامين استثمرت العاصمة اليابانية طوكيو منذ منتصف التسعينيات 270 مليار يورو، فيما قدرّت الحكومة مصروفات المرحلة الثالثة والتي ستستمر حتى نهاية هذا العقد بحوالي 160 مليار يورو إضافية بحيث تخصص هذه الأموال بالدرجة الأولى للاستثمار في مجال الأبحاث الأساسية على أن تتحمل الشركات ثلثي النفقات المخصصة لتطوير منتجات جديدة .أثبتت هذه السياسة نجاحها وجدارتها، فاليوم تأتي أهم شركات التصنيع في العالم للشاشات المسطحة والكاميرات الرقمية والخلايا الضوئية والسيارات المهجنة التي تعمل بنوعين اثنين من الوقود من منطقة الشرق الأقصى.
وفي سباق جهودهم للوصول إلى هذا المستوى لا تتوانى الشركات في اللجوء إلى المساعدات الحكومية، فوفقما أفادت به وزارة العلوم، تدعم الوزارة من جانبها الكثير مما يسمى بـالخلايا العلمية العنقودية ومن بين تلك المجمعات العلمية مدينة تسوكوبا التي صممت في الأساس كمدينة علوم (Science-City) بتكلفة تقترب من 15 مليار يورو. واليوم تحتضن المدينة واحدة من أفضل جامعات اليابان إضافة إلى العديد من مراكز العلوم والمئات من معاهد الأبحاث الصغيرة الخاصة.
وتنتهج وزارة العلوم اليابانية طريقا مشابها، فهي تدعم اليوم على مستوى الدولة ما يقارب عشرين مجمعا صناعيا. في هذه المجمعات تعمل مئات الآلاف من الشركات على نطاق ضيق مع 300 جامعة. وأحد هذه المجمعات الصناعية يوجد في مدينة تاما وهي مدينة صناعية كبيرة تقع شمال غرب العاصمة طوكيو ويعيش فيها عشرة ملايين نسمة يمتلكون آلافا من الشركات متوسطة الحجم.
ومع انفتاح الصين، نقلت الشركات خطوط الإنتاج التي تستلزم طاقة عمالة عالية إلى هناك، وما بقي في اليابان هو البحث والتطوير. ويعود هونمي بذكرياته إلى الماضي البعيد قائلا: "عندما انطلقنا هنا قبل 30 عاما، كنا من الشركات المنسيـة ولكننا اليوم نقف متألقين في قلب الشركات الكبيرة"