الغزاة الجدد في إسبانيا.. النجاح في الخارج يتناقض مع إجراءات الحماية في الداخل
الغزاة الجدد في إسبانيا.. النجاح في الخارج يتناقض مع إجراءات الحماية في الداخل
أما أن إسبانيا تنتمي اليوم لبلدان العالم المرفهة, فما زال موضوعا مثيرا للدهشة. فبموجب الكليشيهات الرائجة ما كان لإسبانيا أن تحقق ما حققته من نهوض خلال العقدين الماضيين إذ لا تكاد تتوافر في البلاد قاعدة صناعية محلية، كما أن الكمبيوتر لم يجد طريقه إلى إسبانيا إلا في وقت متأخر نسبيا. ولم يحظ البحث والتطوير بنصيب وافر من الاهتمام. ومن زاوية الرؤية لكثير من زوار إسبانيا من الألمان فإن الدينامية الاقتصادية قد شقت طريقها إلى إسبانيا تحت أشعة شمس الشواطئ وليس من خلال العمل الدؤوب في الورش وقاعات الإنتاج. وعندما تم إدخال اليورو أصبحت إسبانيا بصورة شبه أوتوماتيكية عضوا في نادي بلدان البحر المتوسط التي لم يكن أحد يثق في قدرتها على تلبية متطلبات العملة المستقرة.
غير أن هذا كله خادع. فإسبانيا أدركت خلال السنوات العشر الماضية وفي ظل حكومات متغيرة كيف تربط ما بين معدلات النمو العالية واستقرار موازنة الدولة. لقد نما الاقتصاد بسرعة ودائما بمعدلات تتراوح ما بين 3 و4 في المائة, كما أظهرت موازنة الدولة منذ بضع سنوات فائضا. وقد جاء هذا النهوض بفضل المناخ الملائم وتدفق السياح من وسط وشمال أوروبا على الشواطئ الإسبانية, وكذلك نعمة استقرار العملة والدعم المالي المرتفع من الاتحاد الأوروبي. وقد تطورت في هذه الأثناء مصادر قوة جديدة أكسبت حالة النمو نوعية جديدة. إن سلسلة من الشركات الإسبانية تسعى حاليا بقوة وطموح وبنجاح متزايد إلى لعب دور مهم في أوروبا. وخير الأمثلة على ذلك بنكا سانتاندر وبانكو بيلباو فيسكايا أرخنتينا, اللذان كانا إلى ما قبل سنوات قليلة غير معروفين إلا لقلة من الناس، أما اليوم فمن الواضح أن هاتين المؤسستين المصرفيتين تتجاوز قيمتهما قيمة الدويتشه بانك. ومن الجدير بالذكر أيضا أن بنك سانتاندر وبانكو بيلباو قد قدما درسا في نهاية التسعينيات في كيفية السيطرة على عمليات الاستحواذ: بسرعة وتصميم وبلا ضجيج ما أمكن. يضاف إلى ذلك أن البنكين يعتبران رائدين في مجال تكنولوجيا تحليل البيانات المتعلقة بمنح القروض. وقد حول البنكان, بعد استثمار مبالغ طائلة في أميركا اللاتينية, اهتماماتهما إلى المسرح الأوروبي. فبينما يسعى بنك بيلباو إلى تدعيم مكانته في أوروبا، كان بنك سانتاندر يستحوذ على بنك أبي ناشيونال البريطاني الكبير.
وقد حدث الشيء نفسه مع شركة تيليفونيكا للاتصالات وإن كان بحظوظ أقل. فبعد القيام باستثمارات طائلة في أميركا اللاتينية حاولت, دون أن يحالفها الحظ, الحصول على تراخيص باهظة الثمن للهواتف الجوالة في ألمانيا والنمسا وسويسرا وإيطاليا. غير أن محاولتها الثانية أعطت مردودا أفضل, حيث إنها استطاعت الاستحواذ على شركة ( أو 2 - O2 ) البريطانية للهواتف الجوالة, التي تتمتع بحضور لا بأس به في ألمانيا أيضا, وعلى شركة " تشيسكي تيليكوم " التشيكية للهواتف الجوالة أيضا. وباستقطابها لأكثر من 130 مليون مشترك في الهواتف الجوالة وحدها, وبإنشاء قواعد لها في ألمانيا, وبريطانيا والجمهورية التشيكية أصبحت " شركة تيليفونيكا " عضوا في المجموعة المتميزة في هذا القطاع. ولما كانت قيمتها في البورصة تقدر بنحو 70 مليار يورو, فقد تفوقت في هذه الأثناء بشكل واضح على شركة تيليكوم الألمانية.
وليست البنوك و"تيليفونيكا" هي وحدها المؤسسات الإسبانية الجديدة ذات الوزن الثقيل في أوروبا, حيث إن شركة إنديتيكس - Inditex للملبوسات صاحبة العلامة التجارية المميزة ( زارا - Zara ) قد تمكنت في هذه الأثناء من التفوق على شركة ( إتش أند إم - H & M ) السويدية التي كانت المسيطرة على هذا القطاع في أوروبا, وكذلك استطاعت عدة شركات إنشائية إسبانية أن تخطف الأضواء وتصبح من الشركات التي يشار إليها بالبنان. هذا وتدير شركة " فيروفيال - Ferrovial " حاليا مطار هيثرو في لندن إضافة إلى عدد آخر من المطارات. وبالمثل استطاعت شركات متنافسة مثل ( ACSو FCCو Acciona وSacy) أن تصبح من أهم الشركات الخدمية وذلك من خلال ابتلاعها لشركات مماثلة في الخارج. وتحاول شركة ( أبيرتس – Abertis ) لإنشاء وإدارة الطرق السريعة أن تصبح الشركة الأولى في هذا المجال على نطاق عالمي وذلك من خلال سعيها إلى وضع اليد على هذا القطاع في إيطاليا.
إن الأنشطة الجديدة التي تباشرها إسبانيا في أوروبا تدلل على تنامي الثقة بالذات لدى الطواقم الإدارية التي لم تكن تتوافر لديها الجرأة, حتى قبل سنوات قليلة, للتعامل خارجيا مع غير بلدان أميركا اللاتينية التي تربطها بها الرابطة الثقافية المشتركة. بينما استطاع العديد من الإسبان في مناصب عليا أن يحصلوا على خبرات خارجية في هذه الأثناء في كل من الولايات المتحدة وأوروبا الغربية بحيث إن الحديث بالإنجليزية لم يعد يشكل عقبة. يضاف إلى ذلك أن إسبانيا أصبحت تزهو في هذه الأثناء بسلسلة من مؤسسات للتدريب الإداري ذات السمعة الجيدة على النطاق العالمي.
وفي ضوء الأسلوب الجديد لعمل الشركات الإسبانية في الخارج لم يعد من المقبول أن تعترض إسبانيا على محاولات شركة إيون الألمانية للاستحواذ على شركة إنديسا الإسبانية العاملة في مجال توريد الطاقة. إن الحكومة الإسبانية تجد سندا لها, في مقاومتها السياسية المستمرة لشركة إيون, في نتائج الاستفتاء التي أظهرت بأن كثيرا من المواطنين الإسبان يعتبرون أن من الخطر وقوع جزء كبير من سوق الطاقة الوطنية في قبضة جهات أجنبية. هذا وقد انضمت بنوك خاصة وشركات إنشاءات إلى مقاومة إيون وغيرها من الشركات الأجنبية المعنية من خلال شراكتها في شركة الطاقة الإسبانية.
ومن النظرة الأولى يتبين أن الشركة الإسبانية محصنة ومحاطة بحدود محكمة في مواجهة الشركات الأجنبية, ولكن هذه الصورة تنسجم مع إسبانيا العهود القديمة عندما كانت بلادا فقيرة وليس لاقتصادها أهمية تذكر، ولا تنسجم مع إسبانيا الحديثة. إن هذا الإدراك لا بد له من أن يتعمق تدريجيا في الاقتصاد أيضا, حيث تقوي الثروات الجديدة, والثقة المتزايدة بالنفس, والنجاحات التي تحققها الشركات في الخارج, القناعة بأن أسبانيا هي المستفيدة من الحدود المفتوحة أكثر من غيرها. إن القلعة الإسبانية تتهاوى لا محالة حتى وإن كان هذا متأخرا بالنسبة لشركة إيون.