"العلاقة الحميمة" بين القطاع الخاص والحكومة الفرنسية تعرقل نمو القطاع المتوسط

"العلاقة الحميمة" بين القطاع الخاص والحكومة الفرنسية تعرقل نمو القطاع المتوسط

"من أجل الوطن الأب، العلماء والشهرة"، مقولة قالها القائد الفرنسي الشهير نابليون بونابرت اتخذتها إحدى أهم مدارس علوم الإدارة في فرنسـا، مدرسة "بولي تكنيك" - Polytechnique، شعارا لها. في مراسم الاحتفال بعيد الثورة الفرنسية 14 تموز (يوليو)، يقود طلاب المدرسة باللباس الرسمي والسيوف مشهرة، مقدمة الجيش الفرنسي في شارع الشانزليزيه. تعتبر البولي تكنيك إحدى المدارس الريادية في تخريج النخبة المصطفاة من المديرين في فرنسا، وحتى هذا اليوم تتمتع "المدرسة الكبيرة" الواقعة تحت مسؤولية وزير الدفاع والتي يطلق عليها الاختصار إكس - X، بتأثير كبير في العديد من القوى الإدارية وفي أسلوب عملهم كذلك.
مع ظهور الأزمة في أروقة شركة تصنيع الطائرات إيرباص - Airbus أصبحت المشاكل الألمانية - الفرنسية في تحديد طرق التعاون الاقتصادي بين البلدين أكثر تميزا وإثارة لرعب لدى الآخرين: المخاوف والاتهامات المتبادلة بين البلدين الجارين انعكست في النزاع القائم حول مجموعة البورصة يورو نيكست - Euronext. وهنا يطرح السؤال نفسه، كيف أضحى الوضع على هذا الحال، بأن يخوض الفرنسيون تكرارا ومرارا نزاعات ثنائية مع الألمان، ولا سيما أنهم يعتزمون سوية بناء وإدارة شركات جماعية ؟ للبحث عن مرجعية أسباب النزاعات، يجدر أن نلقي نظرة على الاختلافات في أصول المديرين في كلا البلدين. ففي ألمانيـا يشق المديرون مسيرتهم العملية، بأن يلتحقوا بعد الدراسة بإحدى الشركات، ويعملوا جاهدين على صعود الهرم الوظيفي، أو يتم إغراؤهم من شركة أخرى بأجور أعلى بسبب إنجازاتهم الكبيرة في أحد المجالات المتخصصة، ليواصلوا هناك ارتقاء السلم في مسيرتهم. في المقابل، يسيطر في فرنسا نظام جامعي ذو توجه لتوليد قيادات مصطفاة، مرتبط بعلاقة وطيدة مع القيادة الحكومية. هذا النظام يجعل تقريبا في أكثر الحالات القوى الناشئة تلتحق في بداية مسيرتهم بإحدى الوزارات، قبل أن يتحولوا للعمل في الاقتصاد. وفي العادة يجد أوائل دفعة التخرج من مدرسة "بولي تكنيك" أو مدرسة العلوم الإدارية أينـا - ENA" تلقائيا وظيفة في إحدى الشركات الحكومية المرموقة، حيث لا يصبحون هناك موظفين حكوميين في مناصب عالية ذات أجور مرتفعة فحسب، بل يحصلون مباشرة بعد التعيين على مسؤوليات وواجبات متميزة. هذه الخطوة تفتح لهم أبوابا لبناء علاقات جيدة مع شخصيات ذات نفوذ كبير في الحكومة، وتعمل كذلك على زيادة الخيارات اللاحقة أمامهم في المستقبل.
البداية في الجهاز الوظيفي الحكومي يوضح أيضا سر العلاقة الوثيقة المتواصلة للكثير من المديرين الفرنسيين وشركاتهم مع الحكومة، حتى وإن لم يتمخض عن هذه العلاقات في أيامنا هذه أي آثار عكسية على شراكات رأسمالية عمومية. صحيح أن عمليات التخصيص العديدة التي تمت في الأعوام الماضية أتاحت للشركات الفرنسية فرصة الحرية والإنفلات من أيدي الحكومة، لكن الغريب في الأمر هو أن مسيرة المديرين الذاتية ونمط إدارتهم لم يتغير كثيرا. ففي الآونة الأخيرة قلّ الطلب على خريجي المدرسة "أينـا" كمديرين أفذاذ، فيما اكتسبت في المقابل مدرسة العلوم الهندسية "بولي تكنيك" وكليات الاقتصاد في فرنسا وزنا وأهمية في سوق المديرين الفرنسي. الشبكات الضيقة ما بين الخريجين القدامى من "المدارس المتخصصة الكبيرة Grand Ecole هي التي تؤمن المصالح للتنقلات المتبادلة من فوق حدود الشركات في تخطّ إلى دهاليز عالم السياسة.

تدريب وتوليـد "الصفوة الممتازة" ليس حديث اليوم، بل حديث تمتد جذوره إلى أعماق الثورة الفرنسية، حيث كان الفرنسيون يسعون من وراء تأسيس مدارس تخريج الكوادر لكي يضمنوا عدم خسارة الكفاءات العالية والعلوم التكنولوجية من داخل البلاد. وفي عهد نابليون بونابرت كانت الوزارات تمتلك مدارسها الخاصة بها، وكانت الحكومة تتكفل بالنفقات المترتبة على ذلك، وتدعم في الوقت نفسه معيشة الطلاب ماديا. في المقابل كان الخريجون يتعهدون الزاميا، بأن يعملوا لدى الحكومة لسنوات عديدة. ومن هذا المنطلق أخذت الوحدة الوطنية في فرنسـا تنمو وتتسع، لدرجة أنه في عهد الملك الفرنسي "لودفيج الرابع عشر" بدأت "الدولة المركزيـة" في الانتشار، فيما كان يوجد في ألمانيا بعد معاهدة سلام فيستفالين في عام 1648 ما يزيد على 350 دويلة صغيرة.
إن تدخلات الحكومة من خلال وزير مالية الملك لودفيج، كولبرت، مازالت لغاية الآن ظاهرة، على الرغم من أن الأدوار بين الحكومة والشركات قد انقسمت بطريقة متغيرة تماما عن قبل. الوحدة بين السياسة والقطاع الخاص تظهر بوضوح "أنيابها" حين تأتي التهديدات من الخارج. على سبيل المثال، عندما أرادت شركة الطاقة الإيطالية أينيل - Enel الاستحواذ على الشركة الفرنسية سويس - Suez، مهدت الحكومة الفرنسية مباشرة كردة فعل عملية خصخصة شركة غاز دو فرانس - Gas de France، وذلك من أجل إبقاء الإيطاليين بعيدا عن تحقيق اندماج فرنسي بحت. في الوقت نفسه رسم الرئيس الفرنسي جاك شيراك لشركة التزويد الفرنسية فيوليـا - Veolia التي كانت تعمل مع الإيطالية Enel على نطاق ضيق، خطا أقنعها بالتعاون مع الحكومة.

بالنسبة لشركة الطيران الدفاعي والفضائي الأوروبية آي إيه دي إس - EADS European Aeronautic Defence and Space Company المشتركة فقد استطاعت الحكومة الفرنسية أن تصل إلى مركز تحكمي في مجلس إدارة الشركة عن طريق الموظف الحكومي، "لويس جالوا". وحتى تموز (يوليو) الماضي كان يمثل الحكومة الفرنسية في مجلس إدارة EADS رئيس شركة السكك الحديدية السابق، وحتى هذه اللحظة لا يوجد من ينوب عنه في هذا المنصب، فمن الأرجح أن الحكومة الفرنسية راضية بالوضع الحالي لأنها ترى بذلك أن مصالحها في أيد أمينة حاليـا.
على الصعيد الأجنبي، فإن هذه الانطوائية الفرنسية، بين الحكومة والاقتصاد، تواجه في الغالب مزيجا من الخوف والإعجاب. فبالنسبة لـEADS في ألمانيا، فقد أدت السياسة الفرنسية إلى ارتفاع أصوات النداءات تطالب بتطبيق الاستراتيجية الفرنسية في ألمانيا، التي قد تنتهي إلى تفعيل مشاركة من جانب الحكومة. هذا ويلاحظ مراقبون فرنسيون، مثل صحيفة "لي أكو - Les Echos"، نمو سياسة صناعية في البلاد تشابه تلك التي تحكم في فرنسـا، وهذا ما يدعوهم إلى الإعراب عن قلقهم، حيث إن التقليد لا يحالفه دائما الحظ الوفير، وفي هذه الحالة بالذات لن يجدي التقليد نفعا على الإطلاق. وتناشد الصحيفة ألمانيا بأن عليها البقاء والتمسك بعاداتها المبنية على أساس "التباعد" بين الحكومة والاقتصاد. ولا سيمـا أنه يتم التلاعب في تكاليف التدخلات الحكومية، التي لم تبلغ ذروتها فقط في فشل الشركات مثل شركة بل - Bull أو تدهور بعض المشاريع مثل مشروع الطائرة النفاثة "كونكورد".
الجدير بالذكر في هذا المقام هو الجانب المقحط في السياسة الفرنسية بتركيزها في الدرجة الأولى على الشركات الضخمة وتجاهل - بالأحرى إهمال - القطاع المتوسط، ويبرر هذا السلوك هبوط معدلات التصدير في فرنسا. في المقابل تبين معدلات التصدير في ألمانيا، أن المديرين الألمان قادرون وحدهم، وبدون Grand Ecoles، على تحقيق إنجازات فعالة.

الأكثر قراءة