هل مازال الفنانون أسرى للمدارس الفنية التشكيلية؟
هل مازال الفنانون أسرى للمدارس الفنية التشكيلية؟
تتسع الدائرة وتضيق آخذة بعدا آخر وزاوية جديدة في عالم الإبداع، منطلقة من رؤية مغايرة وتجارب جديدة تبتعد عن المألوف محلقة في فضاءات بعيدة، مدركة أبعاد العمل الفني وقيمته الثقافية والتاريخية على المدى البعيد.
يتحول العمل الفني من طابعه الفلسفي، والحالة الشعورية التي سيطرت في تلك اللحظات على ذلك الفنان إلى عمل جمالي يضفي نوعاً من الإحساس بالوجود ويعكس واقعاً ثقافيا، ويبقي صور الأشياء في حياتنا اليومية ماثلة أمام الجميع.
منذ بدايات اللوحة التشكيلية بأطوالها الأربعة وهي تشهد تطورات وتغيرات تبدلت فيها كثير من المفاهيم والقيم الفنية التي كانت سائدة من خلال العلاقة القائمة بين الإنسان والعالم الخارجي من حوله، فاللوحة التشكيلية لغة غنية تملك أدوات تعبيرية تمكن الفنان من تجاوز ذاته والوصول إلى العالم المحيط من حوله.
إن التباين بين المفاهيم والرؤى حول العمل وقيمته الفنية، وتعدد قراءاته تؤكد بقاءه خارج الحدود الذاتية المطلقة، فهو - العمل الإبداعي - يوضح أفكارا يمكن فهمها منفصلة عن أعمق مقاصد الفنان وتبقيه أحيانا كثيرة بعيدا ومنفصلا عن الموضوع الأصلي الذي اختاره الفنان, فهو توجيه للآخرين وربط للخلفيات الفكرية وما تمر بها من ظروف اجتماعية وتقلبات سياسية ومعاناة اقتصادية، فالعمل التشكيلي على العكس تماما من اللوحة الإعلانية ذات الهدف المحدد والمصممة من أجله، التي تفقد قيمتها عندما تتعدد قراءاتها.
مع ظهور أول الفنانين في نهاية القرن الثالث عشر الذين مهدوا الطريق إلى التطور والتجديد في فن التصوير، وأقاموا حداً فاصلاً بين البيزنطية وتقاليد فن النهضة الحديثة حيث انتهت الفكرة السائدة والمسيطرة عليهم في ذلك الوقت وهي تصوير المقدسات فقط، وبدأت فترة جديدة تهتم بالإنسان.
من يدرس تاريخ الفن يجد تطورات مذهلة مرت على الإنسانية تنوعت فيها الوسائل وتباينت فيها الآراء، تظهر مدرسة فتجد من يقف ضدها ويعاديها ومع مرور الزمن تتحول إلى فلسفة ومنهج ويسير خلفها كثير من المبدعين ويسعون إلى ترجمة المواقف التي أمامهم إلى عمل إبداعي يعكس المعاناة ويحولها إلى لوحة فنية من خلال انتمائه لتلك المدرسة لم يجد الفنانون قبولاً في مجتمعاتهم بل أحيانا أخرى يقابلون بالرفض التام لما يقدمه كما حصل في عام1863م عندما رفض صالون باريس أكثر من 4000 ومنعت من العرض إلا أن أصحاب هذه الأعمال لم يقفوا صامتين أمام تلك القرارات بل أحدثوا ضجة, جعلت الإمبراطور نابليون الثالث يضطر إلى إصدار قرار يقضي بعرض الأعمال بقوله " لنترك الجمهور يحكم على أعمال المرفوضين".
ومع امتداد العمر الزمني بقيت اللوحة لغة عالمية من خلالها تتواصل المجتمعات، والأجيال، والشعوب والثقافات ولم يقتصر العمل الفني على الصورة الزيتية أو النحت أو غير ذلك بل تطورت وظهرت أشكال جديدة كالأعمال التركيبية وأعمال الفيديو والصورة الفوتوغرافية وغيرها وهذه ظاهرة صحية, حيث تزداد الرغبة يوما بعد يوم لإيجاد صيغ تعبيرية جديدة تواكب العصر الذي يعيشه الفنان، فأساليب الإبداع تعتمد على ذاتية المبدع وكيفية تعامله مع عناصر الحياة اليومية وتفكيكه لها وتحويلها إلى رموز فنية ليترجم ما يدور في ذهنه وينقلها إلى أرض الواقع في هيئة عمل تركيبي أو لقطة تسجيلية أو صورة فوتوغرافية، فالتطور صفة ملازمة للحركة التشكيلية على جميع المستويات، ونتيجة لذلك بدأت تتداخل فيه التصنيفات وتذوب فيه الحواجز بين المصنفات, مؤكدة استمرار النبض الإبداعي وقدرته على التفاعل مع الماضي ورصد التجارب الحضارية على أسس فنية, فالمبدع يسير موازيا للواقع لا محاكيا له بذهنية متحررة من قيود المطابقة وإعادة الذات وتكرار التجارب، ومع ذلك ما زلنا نرى كثيرا من الفنانين متشبثين بأسماء المدارس ويحكمون على الفنان من خلال تعامله مع تلك المدرسة أو غيرها ويستنكرون انتقاله إلى مدرسة أخرى, بل إننا أمام واقع يتخطى ذلك ويضعنا في مواجهة مع التجارب التي يقدمها الفنان وما تحمله لوحاته من قدرة على ترجمة المعنى، وإتقان في اختيار الألوان ودرجاتها بما تمليه عليه الحالة الإبداعية وليس من خلال دلالات الألوان التي استهلكت معانيها بل بالانطلاق خارج حدود المدارس الفنية التي يرى فيها المبدع أنها تحد من انطلاقته. فإلى متى يبقى الفنان أسيرا لهذه المدارس، في أعماله، وفي نقده وحواراته، وفي الشروط التي توضع أثناء المسابقات التي تقام؟!