السياسة التعليمية في المملكة بين الثوابت والمتغيرات
منذ عدة سنوات، تشرفت بالسلام على سيدي ولي العهد صاحب السمو الملكي الأمير سلطان بن عبد العزيز، ضمن وفد جامعة الملك سعود الذي قدم إلى سموه مهنئا آنذاك بالعودة إلى أرض الوطن بعد أن تكللت رحلته العلاجية إلى الخارج بالنجاح ومنّ الله عليه بالشفاء. وفي لقاء حميمي اتسم بالصراحة والشفافية والوضوح، ارتجل سموه حديثا عفويا صادقا تخللت بعض مقاطعه قضايا الإصلاح والتطوير وحاجة الوطن إلى إسهام جميع أبنائه لتحمل هذه المسؤولية العظيمة، وما زلت أذكر كلماته الخالدة التي أكد فيها أن هذه الدولة قامت على أساس العقيدة الإسلامية، وستظل كذلك حتى يرث الله الأرض ومن عليها، وإن قيادتكم، ممثلة في خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبد العزيز ـ تغمده الله بواسع رحمته ـ وخادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز حفظه الله (ولي العهد آنذاك)، تنتظر منكم الإدلاء والمشاركة بآرائكم ومقترحاتكم لتطوير بلادكم في شتى مناحي الحياة في ضوء تعاليم الشريعة الإسلامية المستمدة من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. إن هذا التوجيه الكريم يؤكد عمق التلاحم بين القيادة والمواطن، كما يمثل أرفع معاني الدعم السياسي وأبرز صور الإرادة السياسية التي تحتضن الإصلاح والتطوير المجتمعي وتحث أبناء الوطن على المشاركة الفاعلة في تطوير مختلف قطاعات التنمية الشاملة.
ويمثل قطاع التعليم الركيزة الأساسية والقلب النابض لجميع قطاعات التنمية، ومن هذا المنطلق، فإن الإصلاح المجتمعي الحقيقي، يبدأ بتطوير قطاع التعليم بمختلف عناصره ومكوناته ومستوياته. وتعتبر السياسة التعليمية أحد المكونات الأساسية التي ينبغي أن تنطلق منها أي مبادرة جادة للإصلاح التعليمي بوصفها الوثيقة التي تتضمن أسس التعليم ومنطلقاته وأهدافه العامة، ويتم في ضوئها توجيه سائر العملية التعليمية وما يصاحبها من أنشطة وممارسات في الميدان التربوي.
وبادئ ذي بدء، ينبغي التأكيد أن السياسة التعليمية في المملكة العربية السعودية تضمنت مجموعة من الثوابت الهادفة إلى غرس العقيدة الإسلامية وتنمية القيم الإسلامية والحفاظ على الهوية الإسلامية، لا مجال للمزايدة أو المساومة على ضرورة الإبقاء عليها، فهي محل اتفاق لجميع أبناء هذا الوطن الذي يدين بالإسلام دينا مهما تعددت أو اختلفت انتماءاته الفكرية أو الثقافية أو العلمية أو المذهبية.
ولعل من الضروري أيضا أن نشير إلى أن الحاجة إلى تطوير التعليم بمختلف مكوناته بما في ذلك السياسة التعليمية، هي مسألة طبيعية تقتضيها متغيرات العصر ومستجداته، لكن هذا التطوير ينبغي أن يستند إلى ثوابتنا وينبع من احتياجاتنا الذاتية ومتطلباتنا التنموية، بعيدا عن الإملاءات القسرية والضغوط الخارجية.
وفي ضوء ما سبق، لعل من المناسب مناقشة بعض الإشكاليات التي تكتنف واقع السياسات التعليمية، وتبرر الحاجة إلى تطويرها وتحديثها وجعلها أداة حقيقية نسترشد بها في تطوير الممارسات والعمليات التعليمية، وذلك كما يلي:
1 ـ إشكالية المنهجية العلمية في بناء السياسة التعليمية
على الرغم من اجتهادات واصفي السياسة التعليمية في ذلك الوقت التي تمخضت عن وضع بنود السياسة التعليمية، وهو اجتهاد محل تقدير واعتزاز، إلا أنها تفتقر إلى الأسس والخطوات العلمية الحديثة في وضع السياسات العامة على وجه العموم، والسياسات التعليمية على وجه الخصوص، الأمر الذي يتطلب توظيف المنهج العلمي الحديث في إعداد وبناء السياسات التعليمية وفق الثوابت الشرعية والمجتمعية.
2 ـ إشكالية الفجوة بين مضامين الوثيقة والممارسات الميدانية
تبدو هذه الإشكالية واضحة في الجفوة من قبل القيادات التعليمية ولا سيما على مستوى المدرسة التي تعتبر النواة الأساسية للعملية التعليمية. ومرد ذلك عدم الاضطلاع الواعي بمضامين الوثيقة والاسترشاد بها في تسيير العملية التعليمية ولا سيما ما يتضمن من بنودها الأسس أو الأهداف العامة أو الأهداف المتعلقة بكل مرحلة تعليمية، ووضع مضامينها في إطار التطبيق الإجرائي والعملي. ومن الخطأ الشائع أن يقال إن وثيقة السياسة التعليمية لا تعني المعلم كثيرا وهو المنفذ الحقيقي لهذه السياسة، ومن خلال تجربتي المتواضعة، نجد أن الكثير من القيادات المدرسية لا يعي تماما المضامين الواردة في وثيقة السياسة التعليمية، بل إن هناك اعتقادا شائعا بأنها قد تكون حكرا على القيادات التربوية العليا.
3 ـ غياب أو قصور بعض المفاهيم الأساسية في بناء الدولة الحديثة
لعل من أبرز المفاهيم في بناء الدولة الحديثة، هو التأكيد على مفهوم المواطنة، وتبني مفهوم "تربية المواطنة" وعناصره المتمثلة في الانتماء، الواجبات، الحقوق، المشاركة، والقيم الأساسية. إن الوثيقة الحالية ركزت على الانتماء الحضاري والهوية الثقافية والاعتزاز بالأمة الإسلامية وجميعها أدوار أساسية ليست موضع خلاف، لكن الانتماء الوطني والهوية الوطنية تم ذكرهما على استحياء في مواقع محدودة، ومن هنا تبرز الحاجة إلى دعم الوثيقة ببنود تعزز من الوحدة الوطنية والانتماء الوطني وتدعو إلى الأخذ بمبدأ الحوار واحترام الآخر وتستنهض الهمم لمحاربة الإرهاب والفكر المتطرف، في إطار تكاملي يتناغم مع الانتماء الحضاري والثقافي للإسلام الذي تعتز به المملكة بحكم قيامها على أساس كتاب الله وسنة رسوله، وتطبيقها تعاليم الشريعة الإسلامية السمحة، واحتضانها الحرمين الشريفين.
4 ـ إشكالية عدم مجاراة المستجدات والمفاهيم التربوية الحديثة
لقد طرأت على أدبيات العلوم التربوية مفاهيم وتطبيقات حديثة لا غنى لأية سياسة تعليمية عن تضمينها والتأكد من اتخاذ التدابير والوسائل الكفيلة بتطبيقها في الميدان التربوي، إن من مميزات السياسة التعليمية الفاعلة، المرونة والاستيعاب لهذه المستجدات التربوية الحديثة، ومن الخطأ التشبث بوثيقة جامدة غير قابلة للتعديل والتطوير التربوي، فالسياسة التعليمية ينبغي أن تكون قدوة التطوير وقائدة له طالما أنه لا يتعارض مع الثوابت الشرعية والمجتمعية.
5 ـ إشكالية التقادم وعدم تمثيل الواقع التعليمي
تتضمن الوثيقة قدرا من المعلومات التي تجاوزها الواقع التعليمي سواء في مجال التخطيط التعليمي، أو فيما يخص الجهات المشرفة على التعليم، ومن هنا فإن الحاجة تدعو إلى تحديث المعلومات والبيانات بما يتلاءم مع الواقع التربوي، ولعل أحد أسباب الانفصام بين نصوص الوثيقة والممارسات الميدانية، يرجع إلى تزايد الشعور والإحساس لدى منسوبي القطاع التعليمي بأن هذه الوثيقة تمثل إرثا تاريخيا يعتز به وهذا أمر محمود، لكن الأولى والأجدر أن يتم تحديث وثيقة السياسة التعليمية ومعالجة إشكالياتها، لتقود الإصلاح والتطور التعليمي بخطى ثابتة نحو الأفضل في ضوء الثوابت وفي إطار المصلحة الوطنية العامة وما يستجيب لمستجدات العصر ومتغيراته.