التطوير ينطلق مع البحث عن الاحتياجات الفعلية للعملاء
<a href="mailto:[email protected]">sami@suwailem.net</a>
تناولت في الجزء الأول من هذا البحث واقع المنتجات المالية الإسلامية، وقلنا إن تطوير منتجات المصارف الإسلامية يأتي من جانبين أما المحاكاة للمنتجات غير الإسلامية أو البحث عن الاحتياجات الفعلية للعملاء وتصميم المنتجات المناسبة لها، وأشرنا إلى أن المحاكاة تفرز أربع سلبيات عرضناها بالتفصيل. وفي الجزء الثاني نحلل الابتكار.
الأصالة والابتكار
الطريق الثاني لتطوير المنتجات الإسلامية هو البحث عن الاحتياجات الفعلية للعملاء والعمل على تصميم المنتجات المناسبة لها. والمختصون في التسويق يعلمون تماماً الفرق بين التقليد وبين الاستجابة لاحتياجات العملاء، فالأول مجرد محاكاة، أما الثاني فهو مصدر الإبداع والابتكار. وهذا المنهج يتطلب دراسة مستمرة لاحتياجات العملاء والعمل على تطوير الأساليب التقنية والفنية اللازمة لها. ولا ريب أن هذا المنهج أكثر تكلفة من التقليد والمحاكاة، لكنه في المقابل أكثر جدوى وأكثر إنتاجية. والتكلفة غالباً تكون مرتفعة في بداية تطبيق المنتج، ثم بعد ذلك تنخفض التكاليف إلى مستوى التكلفة الحدية المعتادة في المنتجات المالية. لكن المؤسسة التي تبادر أولاً تنجح في استقطاب نسبة أكبر من السوق ومن ثم تضمن جدوى طرح المنتجات الجديدة ابتداء.
التمويل والاحتياج الفعلي
كثيراً ما يتم الخلط بين الاحتياج الفعلي وبين الطلب الظاهر للعميل. فمن يطلب من الصيدلية مثلاً دواء معيناً فهو يهدف إلى معالجة المرض أو الألم الذي ألمّ به، والدواء مجرد وسيلة. وكذلك الحال فيمن يطلب من المصرف قرضاً، فليست النقود هي الحاجة الفعلية التي يسعى لتحقيقها، بل هي مجرد وسيلة. فالنقود لا تراد لذاتها وإنما لإتمام عمليات التبادل الفعلي، ولذلك كان التمويل وسيلة لإتمام التبادل الحقيقي. فالتبادل هو الهدف والتمويل مجرد وسيلة له (كما سبق بيان ذلك في مقال سابق). وإذا كان التمويل بطبيعته مجرد وسيلة، فالعمل على تلبية الاحتياج الفعلي يستلزم دخول المصرف في ترتيبات مع مقدمي السلع والخدمات الحقيقية التي يحتاج إليها العميل. فإذا كان العميل يحتاج إلى النقد لسداد الرسوم الدراسية مثلاً، فيمكن للمصرف أن يبرم ترتيباته مع المؤسسة التعليمية بحيث لا يحتاج العميل إلى أن يحضر إلى المصرف بل يتمم كل إجراءاته في الموقع دون الحاجة للحضور للمصرف. وبذلك تصبح العملية أكثر كفاءة وأكثر إنتاجية. وهذه العملية يمكن أن تتم من خلال الصيغ الإسلامية كالمرابحة أو الإجارة وفق الضوابط الشرعية، وبذلك يصبح التمويل أكثر مصداقية أيضاً.
وإذا كان العميل يحتاج النقد لسداد ديون سابقة فالكلام في الدائن كالكلام في المدين سواء بسواء. فالدائن بدوره يحتاج النقد لينفقه إما لأغراض استهلاكية أو استثمارية، وفي الحالتين يمكن للمصرف أن يكون على استعداد لإتمام إجراءات التبادل وفق الصيغ الإسلامية. فالنقد في النهاية وسيلة للتبادل، وهذا يعني أنه يمكن عند توافر التقنية اللازمة الاستغناء عن النقد من خلال ترتيب إجراءات عملية التبادل مباشرة. وربما كان من الصعب تحقيق هذا الهدف في الماضي لغياب التقنية الضرورية، أما اليوم فإن التقدم الهائل في تقنية الاتصال ووسائل إبرام العقود عن بُعد يعني أنه من السهل جداً إتمام كل العمليات اللازمة لإتمام التبادل وفق الضوابط الشرعية، وبذلك لا يحتاج العميل عملياً إلى الحصول على النقد لأنه بإمكانه الحصول على الخدمات أو السلع التي سيتم إنفاق النقد مقابلها. والاتجاه السائد عالمياً هو انحسار دور النقد السائل في العمليات الاقتصادية، وسيصبح المجتمع في المستقبل مجتمعاً خالياً من النقد cash-less society. وفي مثل هذا المجتمع لا معنى للحصول على القرض بفائدة (أو المنتجات المقلدة له) لأن النقد لم يعد مطلوباً استقلالاً، ومن ثم يصبح التمويل المرتبط بالتبادل هو الأصل وهو النمط السائد. وهذا في الحقيقة هو المبدأ الذي يقوم عليه التمويل الإسلامي، وهو ربط التمويل بالتبادل مباشرة. فالمستقبل إذن هو للتمويل الإسلامي.
طريق الألف ميل
إن تطوير المنتجات الإسلامية الأصيلة التي تلبي الاحتياجات الاقتصادية وفي الوقت نفسه المقاصد والضوابط الشرعية ليس أمراً يمكن أن يتم بين عشية وضحاها، بل يتطلب الأمر الكثير من الوقت والجهد والتكلفة. لكن العائد في النهاية يستحق التضحية، كما أنه ليس بعيد الحصول من حيث المدة الزمنية، بل يمكن البدء بجني الثمار خلال فترة معقولة جداً. المهم هو وضع الخطط الجادة التي تحدد مسار الصناعة الإسلامية بعيداً عن منهجية التقليد والمحاكاة إلى منهجية الأصالة والابتكار، ثم يتم تطبيق هذه الخطة تدريجياً، بحيث يتم تخصيص نسبة 5 في المائة مثلاً من الميزانية السنوية للمؤسسات المالية لتطوير المنتجات الجديدة، على أن تتم مراجعة النتائج وتقويم الأداء دورياً. وطريق الألف ميل كما يقال يبدأ بخطوة. لكن لا ينبغي أن يحملنا بعد المسير على أن نغير الوجهة والهدف أصلاً. وبالعزيمة والتخطيط والتدرج فإن الله تعالى يتكفل لعباده بالهداية والتوفيق: ”والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين“.
* خبير في التمويل الإسلامي