هل تحل الدول المدينة أزمتها بإشهار إفلاسها؟
هل تحل الدول المدينة أزمتها بإشهار إفلاسها؟
يبدو الأمر وكأنه يفوق التصور والخيال، فالقروض الأرجنتينية تطورت خلال الفترة الماضية والاقتصاد مزدهر والمديونية تحت السيطرة، كما أن احتياطيات العملة الصعبة تشكل حاجزا واقيا.. وليس هناك أي مجال للمقارنة مع الجار البرازيلي الذي يرزح تحت عبء ديون أكبر بكثير.
ولنتابع القصة من بدايتها.
بعد الأزمة الحكومية والمالية التي نشبت في الأرجنتين خلال عامي 2001 و 2002 توقفت الحكومة تماما عن خدمة الدين ودفع الفوائد لأنها ببساطة لم تعد قادرة بالفعل عن الدفع. غير أن ما حدث بعد ذلك هو مزيج من الغطرسة والعناد فالحكومة كانت تقول ببساطة " ليس لدينا المزيد نقدمه" هكذا وبكل بساطة، تم في عام 2005 شطب أكثر من 100 مليار دولار من الفوائد والأقساط المستحقة، أي أن المستثمرين كانوا مضطرين إلى التنازل عن أكثر من ثلثي أموالهم إذا وافقوا على هذا العرض لتسوية ديونهم على الأرجنتين. أما إذا رفضوا فسيكونون مضطرين إلى انتظار قروض ترفض الأرجنتين خدمتها بأي شكل من الأشكال. صحيح أن المحاكم المعنية كانت تؤكد دائما على قانونية مطالب المستثمرين وتلزم الدولة الأرجنتينية بتحويل هذه الأموال، ولكن كان من الصعوبة بمكان تنفيذ هذه المطالب.
إن الحقوق الجديدة التي استعيض بها عن القروض القديمة عادت الآن لتصبح محط إقبال المستثمرين في البورصات. ولهذا يزداد سعرها، غير أن هذا لا يمثل سوى بعض عزاء بالنسبة للمستثمرين الذين اضطروا للتخلي عن حقوقهم في عملية الاستبدال. التطور الجيد للاقتصاد الأرجنتيني الذي يقف وراء تحسن الأسعار في البورصة، يعتبر بالنسبة لبعض المستثمرين فرصة إضافية للسخط، حيث إنه بات واضحا في هذه الأثناء أنه كان بوسع الأرجنتين أن تقدم عروضا أفضل لتسوية ديونها. أما بالنسبة للبورصات فان ذلك كله كان مجرد بقايا من الماضي. ومن الواضح أن غالبية المستثمرين المحترفين لا يسترشدون في موقفهم إلا بقدرة الأرجنتين الفعلية على الدفع. ولكن هذا قد يتبين أنه موقف خاطئ في الأجل الطويل. لأن من يختار إشهار إفلاسه كمخرج من الأزمة يمكن في المستقبل أيضا أن يراكم الديون ليتخلص منها في الوقت المناسب بهذه الطريقة نفسها.
إن مثل هذه المخاطر تعتبر محدودة على أية حال بالنسبة لسوق سندات دين البلدان الصاعدة. ولهذا فإن الطلب عليها لا ينقطع، كما أن علاوات المجازفة قد ازدادت بعد أن كانت قد بلغت أدنى مراحلها في آذار (مارس) الماضي، ولكنها بالمقارنة لا تزال في مستوى منخفض جدا على المدى البعيد.
ومن الجدير بالذكر أن سندات الدين بالدولار من بلدان مثل البرازيل، والأرجنتين، وروسيا وتركيا تدر علاوة عائدا يقل في المتوسط عن سندات الدين الأمريكية بنحو نقطتين مئويتين. أما بالنسبة لسندات الدين باليورو من البلدان الصاعدة فلا يستطيع المستثمرون أن يأملوا بالحصول على عائد إضافي يزيد على 0.75 في المائة سنويا في المتوسط ، شريطة الاحتفاظ بالسندات إلى حين موعد استحقاقها. وهذه بالطبع مكافأة متواضعة مقابل المجازفة الإضافية. وللمقارنة: كان متوسط علاوة المجازفة حتى عام 2002 على السندات الدولارية نحو 10 في المائة. أما خلال الأزمة الآسيوية في نهاية التسعينيات من القرن الماضي فقد كانت العلاوة تزيد على ذلك.
ولنقر أن المقارنة مع هذه الفترة هي مقارنة عرجاء، فوضع غالبية البلدان الصاعدة اليوم هو أفضل من السابق بما لا يقاس ، وهي اليوم أكثر اندماجا في التجارة الدولية، كما تقول إحدى دراسات شركة (إنفيسكو) الاستثمارية. يضاف إلى ذلك أن غالبية العملات - على غير ما كانت عليه في السابق – هي اليوم قابلة أكثر للتداول التجاري وهو ما يساعد على تجنب الخلل والضغوط الخارجية. ولعل العامل الأكثر أهمية في تعافي البلدان الصاعدة هو المستوى المرتفع لأسعار المواد الخام. فالعديد من البلدان الصاعدة تصدر النفط، أو غيره من المواد الخام. وقد مكنت العائدات المتنامية هذه البلدان من تصويب أوضاعها المالية. وقد أسهم ذلك في ارتفاع نسبة سندات دين البلدان الصاعدة استثماريا منذ عام 1993 من 3 إلى 40 في المائة. أما السندات الحاصلة على تقديرات متدنية فلا تشكل أكثر من 2 في المائة، بينما كانت نسبتها بين البلدان الصاعدة عام 1993 نحو 25 في المائة.
لقد جاءت ملاحظات شركة (إنفيسكو) في محلها وإن كان لا بد من طرح سؤال يتعلق بالثمن المرتفع الذي تكبدته هذه البلدان لتحقيق التحسن في نوعية سنداتها. إن ارتفاع أسعار المواد الخام قد يكون سببا من الأسباب التي ساهمت في هذا التقييم المتفائل.، حيث إنه لا توجد ضمانات ببقاء أسعار النفط الخام والمواد الخام الأخرى مرتفعة لفترة طويلة كما هي اليوم. يضاف إلى ذلك أن أسعار الفائدة آخذة في الارتفاع في مختلف مناطق العالم. وهذا كله يجعل من الاستثمارات الآمنة مجددا موضع اهتمام متزايد .
وهذا لا يعني، بأي حال من الأحوال أن سندات الدين من كل بلد على حدة من البلدان الصاعدة لن تكون موضع جذب. غير أن عملية الانتقاء ينبغي أن تكون في غاية الدقة، كما ينبغي أن تكون العوائد الإضافية أكثر إغراء، وإلا فإن على المستثمرين أن يسألوا أنفسهم ما إذا كانوا على استعداد للخوض في مجازفات من العسير أن تكون محسوبة من أجل عائد إضافي قدره 1 أو 2 في المائة تماما كما يشير مثال الأرجنتين.