المساعدات بدلا من التجارة أم العكس؟

المساعدات بدلا من التجارة أم العكس؟

كيف تستطيع إفريقيا السوداء أن تخرج من دوامة الفقر ؟ إن جميع من كانوا يأملون أن يأتي الفرج من خلال التجارة بدلا من المساعدات يتطلب الأمر منهم إعادة التفكير في هذه المقولة, فبعد فشل جولة التجارة العالمية الأخيرة سيظل الناس في البلدان النامية يعانون من سلبيات الدعم المباشر وعوائق الوصول إلى الأسواق, وهي الوسائل التي تستخدمها الدول الغنية لحماية أسواقها الزراعية, فالمساعدات التي تقدم للمزارعين في البلدان الصناعية تلحق بالبلدان الفقيرة أضرارا بالغة لا تستطيع المساعدات التنموية أن تعوضها، وهذا ما يخشاه الخبراء في البنك الدولي. وبهذا الصدد حذرت (هايدا ماري تسويل ) وزيرة التنمية الألمانية من أن الفشل في إرساء دعائم حرية التجارة العالمية سيكلف البلدان النامية خسائر تصل إلى حوالي 200 مليار دولار سنويا.

ومثل هذه الخسائر لن تستطيع مساعدات التنمية العامة أن تعوضها مهما ازداد حجم هذه المساعدات مقارنة بما كانت عليه في السابق. ومن الجدير بالذكر أن البلدان التي عادة ما تقدم المساعدات قد زادت من مساعداتها خلال عام واحد بحوالي الربع مما أدى لتدفق 100 مليار دولار على البلدان النامية . حتى وإن لعبت بعض التأثيرات الخاصة، مثل تسونامي وشطب ديون العراق دورا فان الاتجاه العام بات واضحا. وهكذا فمن المتوقع أن تصل المساعدات حتى عام 2010 إلى 130 مليار دولار .

ولعل الأهداف التي حددتها منظمة الأمم المتحدة لتقليص الفقر في العالم إلى النصف مع حلول عام 2015 كان لها دور بالغ في دفع البلدان الصناعية لزيادة مساعداتها المالية كما لم تكن البلدان الغنية أقل عطاء عام 2002 . كما تجدر الإشارة أيضا إلى أن الإجماع الدولي حول مساعدات التنمية ألزم البلدان النامية باستخدام هذه المساعدات بما يعود عليها بأفضل النتائج.

كما وعدت مجموعة الدول الصناعية الغنية الثماني بتقديم المساعدات للقارة الإفريقية بشكل خاص . أما ضرورة توافر الأموال مع حسن استخدامها فتعكسها مؤشرات التنمية البشرية التي ينشرها سنويا البرنامج التنموي للأمم المتحدة . فمنذ صدور التقرير الأول لمؤشرات التنمية البشرية عام 1990 تراجع المستوى المعيشي في أجزاء شاسعة من القارة الإفريقية جنوب الصحراء, كما أن عدد الأشخاص الذين يعيشون على أقل من دولار واحد في اليوم في القارة السمراء قد زاد زيادة ملحوظة .

وهنا تبدأ المعضلة . فالدول التي تعتبر نفسها الأحق بهذه المساعدات هي نفس الدول التي حظيت طوال عشرات السنين بمساعدات كبيرة بشكل خاص . ولكن المحصلة كانت باهتة إذا قيست بالأموال الطائلة التي تلقتها. ومن المعروف أن هذا تناقض قديم قائم في صلب فلسفة مساعدات التنمية الاقتصادية. فالنوايا الحسنة تختلف عن الأعمال الحسنة . ولنتساءل : هل بقي شيء لم يجرب حتى الآن : الحد من الاستيراد, تشجيع الصادرات, عمليات إعادة الهيكلة, شطب الديون, بناء القدرات الوطنية, برامج وطنية لمكافحة الفقر . إن كل عنوان من هذه العناوين يشير إلى محاولة فاشلة لدفع البلدان النامية للتقدم نحو الأمام . ويبدو أن من السهل جمع المليارات لكن من الصعوبة بمكان استثمارها بطرق مثمرة وبناءة .

ما موقع ألمانيا من كل ذلك؟ إن ألمانيا تعتبر اليوم خامس أكبر دولة مانحة للمساعدات, وهي تجيء بعد فرنسا مباشرة . ومن المفروض أن تزداد مخصصات وزارة التنمية من سنة لسنة, وستبلغ الزيادة لعام 2007 وحده ما يقدر بنحو 300 مليون يورو، ليصل حجم المخصصات الكلية إلى 4.9 مليار يورو عام 2010 . وهذه ليست سوى خطوات أولى على الطريق من أجل زيادة نسبة المساعدات الخارجية إلى 0.7 من إجمالي الناتج المحلي عام 2015, بينما لا تزيد حاليا على نصف هذه النسبة المستهدفة. ولكن يسود ثمة اعتقاد بأن من العسير بلوغ هذا الهدف العظيم رغم الزيادات المقررة .
ومن المتفق عليه أن المساعدات الألمانية يجب أن تكون أفضل. فبموجب تحليل أجرته منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية تبين أن تنظيم المساعدات الألمانية فيه كثير من الهدر وقليل من الكفاءة . كما انتقد التقرير ألمانيا بسبب توزيعها المساعدات على ثمانين دولة . ولهذا تعهد الاتحاد الحكومي بإجراء العديد من الإصلاحات بحيث يتم حصر المساعدات الألمانية في ستين بلدا فقط . ولزيادة الكفاءة ستتم عملية فصل تنظيمية بين ما هو " تقني " وما هو "مالي" في العمل المشترك . واستعرضت الوزيرة تسويل أخيرا عددا من النماذج المقترحة للدمج بين " منظمة العمل التقني المشترك " المكلفة بالناحية الفنية و" بنك التنمية لقروض إعادة الإعمار " المكلف بالناحية المالية. وحتى الآن يبدو نمط توزيع العمل, من الناحية النظرية على الأقل, كما يلي : الأولى تساعد بالمهنيين والخبراء والثانية تساعد بالآمال . أما من حيث الممارسة فالتداخل والتقاطع بين الجهتين آخذ في التزايد.
فهل تتحقق عملية الدمج وإذا تحققت فماذا ستكون النتيجة؟ هذه الأسئلة ستكون في الأسابيع القليلة القادمة موضع نقاشات وجدال يمكن من خلالهما أن يختفي الموضوع الجوهري عن الأنظار, وهو أن ثمة خطأ جوهريا في المنطلقات الأساسية للمساعدات التنموية . فبعد تعليق مفاوضات التجارة العالمية أصبح النقاش هنا أكثر إلحاحا من أي وقت مضى, فإفريقيا تبدو الآن بحاجة إلى أكثر من توفير خبراء مهرة وحفر آبار ارتوازية وإقامة محطات وليد الطاقة من خلال الرياح . فالكونغو وزيمبابوي ونيجيريا تصنف كلها على أنها بلدان فقيرة مع أنها غنية بالمواد الخام. إن اشتعال الحروب الأهلية وتفشي الفساد ووجود طبقات حاكمة لا تهتم إلا بمصالحها هو الذي أضر باقتصاد مثل هذه البلاد .
إن إفريقيا بحاجة إلى حكومات ومؤسسات وشركاء أجانب يستطيعون أن ينهضوا بالاقتصاد المحلي. وعلى هذه الخلفية يمكن للجنود الألمان، الذين من المفروض أن يضمنوا سلامة عملية الانتخابات في الكونغو, أن يسهموا مساهمات فعالة في تنمية البلاد أكثر من تقديم المساعدات التنموية التقليدية . وفي النهاية فإن إفريقيا لن تتمكن من الخلاص من الفقر كما فعلت الصين والهند إلا من خلال تعبئة كامل قواها وطاقاتها الكامنة الذاتية .

الأكثر قراءة