لا مبرر للشكوى

لا مبرر للشكوى

لا مبرر للشكوى

بمجرد ما يدور الحديث عن العلاقة بين الطفل والمستقبل ينخرط الألمان على الفور في نوبة كبرى من الشكوى: أعباء مضاعفه، أماكن قليلة في رياض الأطفال، تدني المساعدات الحكومية، وأصحاب أعمال معادون للحياة الأسرية. ولعل الأسوأ من ذلك كله تلك الليالي التي يستعصي فيها النوم على الناس بسبب الأطفال و مشاكلهم المزعجة. وهل بعد هذه القائمة من الشكاوى ما يثير الدهشة عندما يتخذ العديد من الأزواج قرارات بالامتناع عن إنجاب الأطفال؟ وفي الحقيقة أن لهذه القائمة ما يبررها حتى وإن كانت الشكوى من العبء المزدوج مبالغا فيها بعض الشيء. غير أن أحدا لم يزعم قط أن تحقيق التوازن ما بين حياة الأسرة وحياة المهنة هو أمر سهل.
إن نظرة إلى المستويات العليا في إدارات الشركات في بريطانيا، على سبيل المثال، يثير مزيدا من الدهشة. إن الناس في ألمانيا معتادون على أن يكون للرجال الذين يحتلون مراكز قيادية في الشركات عدد كبير من الأبناء، غير أن عدد النساء في الشركات البريطانية اللواتي يشغلن مناصب قيادية هو أكبر من عددهن في ألمانيا، كما أن كثيرا منهن ينجبن العديد من الأبناء أيضا. فعلى سبيل المثال للسيدة كلارا فورس، رئيسة بورصة لندن ثلاثة أبناء، كما أن مجموع عدد أبناء الثنائي المشارك في قيادة مجموعة شركات بيرسن للأدوية مارجوري سكاردينو ورونا فيرهيد ستة أبناء . وبالمثل فإن رئيسة الدائرة القانونية في شركة شل راشيل فوكس تعيل ابنتين. هذا وقد ترقت أنجيلا آرينتس أخيرا لتتولى المسؤولية الأولى في دار الأزياء "بيربري". مع أنها بالمناسبة أم لثلاثة أطفال هم في سن الدراسة الإلزامية، ولم يستحق هذا الموضوع من وسائط الإعلام البريطانية أكثر من ملاحظة على الهامش .
إن الجزيرة البريطانية لا تمثل بالطبع النموذج الأمثل لسياسات الرعاية الأسرية . غير أن إلقاء نظرة على إحصاءات الولادات ومشاركة الأمهات في قوة العمل تبين أن بريطانيا في وضع أفضل من ألمانيا. فأصحاب الدخل المرتفع خاصة لا يرون في تأسيس الأسرة مجرد نشاط جانبي مقارنة بانشغالاتهم المهنية. ففي بعض الأحياء السكنية في لندن تعتبر عربات الأطفال مرتفعة الثمن رمزا من رموز التفاخر شأنها في ذلك شأن السيارات الفارهة. وبدلا من التفاخر بالرحلات الفاخرة تفضل العاملات في البنوك التفاخر بعدد أطفالهن. لقد أصبح إنجاب الأطفال رمزا للأناقة - وليس سببا للتذمر والشكوى.
أن الأمهات البريطانيات يجاهدن على الدوام، كما هو حال الأمهات في البلدان الأخرى، من أجل الحصول على كل شيء، ولكنهن سرعان ما يكتشفن أن هذا غير ممكن. غير أن بعض العوامل الاقتصادية تسهل على ذوي المؤهلات العالية، بشكل خاص، الجمع بين المهنة والأسرة. ولعل من بين هذه العوامل فترات دراسة أقصر، وخدمات منزلية مزدهرة، وتدخلات حماية أقل من قبل الدولة.
يبدأ الأكاديميون في بريطانيا حياتهم المهنية عندما يبلغ متوسط عمر الواحد منهم 24 عاما، أما الحاصلون على الدرجة الجامعية الأولى فيمكن أن يبدأوا في وقت أبكر. ومقارنة مع نظرائهم من الألمان فان الواحد منهم يتقدم بحدود أربع سنوات أكثر في العمل المهني ولكسب المال قبل أن يبدأ تأسيس الأسرة والانخراط في العمل المهني. وبعكس ذلك تبدأ الساعة البيولوجية للمرأة الألمانية بالعمل بمجرد حصولها على الشهادة العلمية، وإذا أرادت إحداهن العمل لبضع سنوات لكي تجني ثمار تعبها، فإنه لن يتبقى لها من الوقت ما يكفي لإنجاب أكثر من طفلين - وهو ما تدعو له الحكومة للمحافظة على العدد نفسه من السكان.
كما أن المديرات الكثيرات الأطفال في الجزر البريطانية لسن بالنساء الخارقات للعادة ( نساء سوبر)، كما يحلو لوسائط الإعلام أن تصفهن، فخلف كل سيدة من هؤلاء توجد مربية ومدبرة منزل. هذا وتقوم المؤسسات الخدمية القريبة من أماكن السكنى في بريطانيا بسد الثغرات الموجودة في السلسلة العامة لرعاية الأطفال. فمثلا يفضل ذوو الدخل المرتفع لرعاية أطفالهم توظيف مربية بدلا من إرسالهم لدور الحضانة. فهذه الطريقة لا توفر فقط رعاية خاصة للأطفال وإنما توفر أيضا إطارا أكثر مرونة من دور الحضانة التي تداوم لعدد محدد من الساعات. يضاف إلى ذلك أن العرض من الأيدي العاملة كبير للغاية. فسوق العمل البريطاني المفتوح تستقطب ملايين المهاجرين من بلدان مثل الفلبين، إفريقيا الجنوبية، أستراليا، ومن بلدان أوروبا الشرقية أيضا. ونظرا لانعدام الروتين والبيروقراطية فقد أصبح من السهل على الأفراد العاديين أن يصبحوا مشغلين للأيدي العاملة.
إن السياسة البريطانية في مجال الأسرة تسير، كما في المجالات السياسية الأخرى، وفقا للشعار الذي يقول: أقل ما يمكن من التدخل الحكومي، وأكثر ما يمكن من المسؤولية الذاتية. ولهذا فليس من الممكن للبريطاني حتى أن يحلم بالحصول من الدولة على 1800 يورو في السنة كإعانة عائلية. إن المشرع قد ضمن للأمهات إجازة أمومة مدتها نصف سنة، بحيث تحصل الأم المجازة في الأسابيع الستة الأولى على 90 في المائة من راتبها. وهذا يقل عما تحصل عليه الأمهات المستحقات لمثل هذه الإجازة في ألمانيا. يذكر في هذا الصدد أن الأسر ذوات الدخل المحدود تحصل في ألمانيا على علاوات للأطفال وعلى إعفاءات من الضريبة.
أن الشروط التي تبدو قاسية لأول وهلة، هي في النهاية لصالح تلك النسوة اللواتي لا يسمحن لأنفسهن، رغم وجود الأطفال، بالوصول في مهنهن إلى طريق مسدود. فقصر إجازات الأمومة وتدني ما تدفعه لهن الدولة من إعانة يشكلان حافزا قويا لهن للعودة إلى الحياة الوظيفية.
والعائدات إلى وظائفهن بعد أن يكون أطفالهن قد بلغوا من العمر ستة أشهر لا يعتبرن أمهات مهملات في تربية أطفالهن لأن هذا هو التصرف الطبيعي. وفي هذه الحالة فإن هؤلاء الأمهات لا يخسرن شيئا من القدرة على المنافسة. كما أن أصحاب الأعمال يستطيعون بالتالي الاعتماد على مثل هؤلاء النسوة على المدى البعيد. وهذا يؤدي بدوره إلى تحسين فرص النساء في سوق العمل.
ومع ذلك فإن سياسات الأسرة في بريطانيا لا تخلو من انتقادات واختلافات في الرأي، فبعكس ما هو قائم في العديد من البلدان الأوروبية الأخرى تشكل مشكلة فقر الأطفال قضية كبرى بكل المقاييس. حيث إن احتمال وقوع من تقوم بتربية طفلها بالاعتماد على نفسها فقط في وهذا الفقر يصل إلى ما نسبته 50 في المائة، وهي نسبة ليس لها نظير من حيث الارتفاع في أي قطر من أقطار أوروبا الغربية. ولكن للعثور على إجابة عن السؤال المتعلق بالكيفية التي تتوافر للنساء المهنيات من خلالها الجرأة على إنجاب الأطفال، لا بد من إلقاء نظرة على الجزر البريطانية. إن المرأة التي تريد أن تتقدم مهنيا والتي تثق بنفسها هي بالتأكيد ليست بحاجة لحماية الدولة. ومما يساعدها في نجاح مسعاها أن تعتمد على سوق مزدهرة من مقدمي الخدمات الخاصة، والعثور على من يوظفها على أساس أنها لا تمثل عنصر مجازفة وإنما على أساس أنها مصدر للإثراء.

الأكثر قراءة