يحق للشعب الأوروبي معرفة مصير الضرائب التي يدفعهـا

يحق للشعب الأوروبي معرفة مصير الضرائب التي يدفعهـا

خطوة دافعة أفضل لم تقدم عليها المفوضية الأوروبية منذ زمن بعيد, فمن يريد إقناع الأوروبيين بأن مفوضية الاتحاد الأوروبي EU تصرف أو بمعنى آخر توزع ضرائبهم بصورة عادلة ومفيدة، فعليه أن يقول لهم أيضا إلى أين تمضي هذه النقود. هذا هو ما تطالب به المسؤوله في المفوضية "ماريان فيشر بوول"، وإلا فإن الاتحاد الأوروبي سيثير في النفوس الشك بأن هناك ما يخفيه. ولهذا ستقوم مفوضية الاتحاد الأوروبي، بحث دول الاتحاد ابتداء من عام 2007 على نشر أسماء المستقبلين للدعم القادم من العاصمة البلجيكية بروكسل (مقر الاتحاد الأوروبي)، في الإنترنت. وبهذا يكون في مقدرة كل مواطن أوروبي أن يعرف من تسلم النقود ولأي مشروع. أغلبية الدول رحبّت بهذا الاقتراح، إلا أنه واجه في العاصمة الألمانية برلين عاصفة من التشكك والاحتجاج. فقد صرّح "ميشائيل جلوس" وزير الاقتصاد الألماني منتقدا الاقتراح بأن نشر الحقائق حول مبالغ الدعم يهدد بظهور عناوين سلبية بالخط العريض والتي ستشكك في مصادر الدعم. وعلى الصعيد ذاتـه حذّر زميله وزير الزراعة "هورست سيهوفر"، من أن الاقتراح سيثير موجـة من الجدل والحقـد.
الحكومة الألمانية تعتزم تحديد موقفها من مبادرة بروكسل في إيجاد الشفافية. وإذا ما سارت الأمور على ما يرام فسيكون الخيار الأول للحكومة الألمانية نشر المعلومات ولكن بصورة محدودة. ففي الظاهر أن هناك بعض المسؤولين في الحكومة لا يريدون أن يعرف الشعب الألماني الذي يمول أولا وأخيرا نسبة عالية من ميزانية الاتحاد الأوروبي، ماذا يحدث بأمواله، ولذلك كان الخوف من أن يبدأ الشعب بالسؤال حول مغزى الأموال المدفوعـة. ولكن إذا نظرنا من ناحية أخرى فسيكون هذا هو الوقت المناسب لإثارة الجدل حول هذه المسألـة. فابتداء من عام 2008 تريد الدول الأعضاء مناقشة نقطة الدعم المستقبلي لقطاع الزراعة التي تحتل 40 في المائة من ميزانية الاتحاد الأوروبي والبالغة 115 مليار يورو. حينها يعرف الناس عن ماذا يتحدث رجال السياسـة.
في الوقت الحالي لا أحد يعرف ماذا تفعل ألمانيا حقيقة بحصتها البالغة ستة مليارات يورو في ميزانية المساعدات المقدمة لقطاع الزراعـة. الشيء الأكيد هو أن من يعرف كم هكتار أرض زراعية يمتلك أحد المزارعين، يستطيع أيضا أن يحسب كم من المال يحصل ذلك الشخص. ففي المعدل المتوسط تبلغ قيمة الدعم المدفوع من بروكسل للمزارع الألماني للهكتار الواحد 300 يورو. وتقوم بعض حكومات الدول بنشر إحصائيات حول توزيع الأموال. فهذه الإحصائيات تظهر أن أغلبية الأموال المدفوعة تتدفق إلى شركات ضخمـة وليس كما هو معتقد في العادة إلى شركات صغيرة. ولكن خبرة الدول الـ 11 التي قامت في وقت لاحق بنشر النتائج، أظهرت بأن قائمة المنتفعين الكبار لها وزن أثقل من جميع القوائم. في هذه الدول أثار نشر النتائج نقاشات حول سياسة الدعم التي ينتهجها الاتحاد الأوروبي, فالوضع أصبح الآن غير مقبول.
وخاصة عندما يعرف المواطن في هذه الدول من هم المنتفعون العشرة أو الـ 15 أو الـ 100 الأوائل: ففي هولندا تضم القائمة شركات مواد غذائية كبيرة مثل نستلـه وإنترفود، وفي بريطانيا الملكة اليزابيث والأمير شارلس !
في ألمانيا لن يختلف الوضع كثيراً عن نظيراتها الأخريات. فكما هو معروف تحصل كل من شركة الأغذية "زوت - Zott" و"نورد ميلش - Nordmilch" على دعم من ميزانية القطاع الزراعي للاتحاد الأوروبي، كما أقرت شركة "زود تسوكر - Sudzucker" ونقابة المزارعين في مدينة "بارنشتيدت" أنهما حصلتا على ما يزيد على مليوني يورو كدعم، وفي الأقاليم الجديدة (ألمانيا الشرقية سابقا) يوجد من أصحاب الملايين من حصل على تلك الأموال. وإجمالا يمكن القول إن كل نقابة للإنتاج الزراعي (إل بي جي - LPG) تقريباً تحصل على دعم، تقدر قيمته بحسب حجم النقابـة. طبعا هذه الحقائق غير كافيـة بقدر ما يجب أن توضح الأرقام المذكورة بتفصيل أكثر وتوضع تحت معايير مقارنة. فمن جهـة تحصل شركات الأغذية الضخمة على دعم من بروكسل وذلك لأن الدعم الخارجي لصادرات منتجات الاتحاد الأوروبي الغذائية تدفع من خلال تلك الشركات للمزارعين. وبالنسبة لشركات الصناعات الكيماوية الأوروبية مثل "باسف - BASF" فهي تحصل على دعم وذلك لكونها تستخدم في صناعاتها سكر من إنتاج أوروبي وليس من إنتاج الأسواق العالمية الرخيصة. في الواقع ليس هنالك ما يستدعي لوم تلك الشركات، فليس لديهم خيار آخر طالما أن تشكيلة سياسة الاتحاد الأوروبي ستبقى كما هي، والاتحاد الأوروبي سيبقى يغمر أسواقه الزراعية بالمال. في الوقت نفسه لا يلعب المبلغ الذي يحصله المزارع دورا كبيرا، فهنالك شركات ومؤسسات تحصل على 15 ألف يورو لكل عامل لديهـا، وهناك من يحصل على 100 ألف يورو. فإذا كان المقصود هو التخلي عن الشفافيـة وذلك لأن النتائج وضحت، حينئذ سيصبح الأمر كمن يستبدل الحسنات بالسيئات.
وحتى الحجة التي اعتذر بها وزير الاقتصاد الألماني جلوس قائلا إن شفافية أكثر في التعامل مع الأموال تعني بيروقراطيـة فهي ذريعـة غير مقبولـة. فللوهلة الأولى يبدو الأمر مثيرا للفزع عند الحديث عن الأرقام والنتائج الضخمة في قاعدة البيانات. ولكن في عصر طغى فيه الحاسوب الآلي سيكون ذلك أمراً يسيرا طالما أن التعامل بملفات ومجلدات إداريـة جديدة غير ضروري في هذه الحالـة. فمن يقدمون الطلبات عليهم فقط الإدلاء بموافقتهم على نشر أسمائهم في الإنترنت فحسب. والنتائج حينئذ يجب أن تمر على دائرة تعامل مركزيـة.
وهنا يمكن الحديث عن بيروقراطية أكثر. ولكن هذه المتاعب لا يجب أن تحول دون الشفافية التي سيحصل عليها الشعب. المتاعب المتخوف منها من الممكن حصرها بـ "قيمة هامشية معينة". فحين يتجاوز المبلغ حدا ما مفروضا، حينئذ سيتم نشر اسم المنتفع والمشروع والمبلغ. ولكن من غير المسموح به أن تكون العتبة المحددة عالية نوعا ما. فإذا ما قامت الحكومة بتحديد القيمة على حسب اقتراح جلوس، عند مليوني يورو، حينها يكون المنتفعون الكبار من المزارعين هم المعنيون بالدرجة الأولى. الحجة الأخيرة التي يمكن الإدلاء بها ضد مخطط الشفافيـة هي في الوقت نفسه، حجة الحماية خلف ستار "سياسـة حماية البيانات"...فمن يتسلم نقوداً من الاتحاد الأوروبي لسنوات عديـدة، عليه أن يضع في الحسبان أن حكومته ستقوم بنشر بياناته في الإنترنت. ومن يعارض هذه الخطوة، عليه فقط أن يستغني عن تلك النقود ابتداء من العام المقبل.
الذريعة التالية التي لا يمكن تجنبها في جميع الأحوال تتمثل في توضيح القرارات التي سيستخلصها دافعو الضرائب من البيانات المتصلة بدعم القطاع الزراعي وسياسة صندوق الدعم : منظمة السلام الأخضر (جرين بيس - Greenpeace) والمنظمة العالمية لمحاربة الجوع "أوكسفام - Oxfam" تأملان من هذه الخطوة الفعالـة دعمـا أكثر لسياسة دعم توجهها الأول البيئي وكذلك المزارعين الصغـار. ومن الأفضل بوجه عام وضع علامة استفهام حول مسائل دعم الاتحاد الأوروبي للقطاع الزراعي، وحول أجزاء معينة من مساعدات البنية الهيكلية. في النهاية يبقى الأمر في يد الحكومة إذا أرادت أن توضح لدافعي الضرائب حقيقـة الدعم المالي. وإذا استطاعت الحكومـة ذلك، انكشف أمر توزيع النقود وسيكون ذلك أمرا حسنـا منهـا.

الأكثر قراءة