احتجاجات بريطانية عنيفة ضد سياسة بلير تجاه الطاقة النووية

احتجاجات بريطانية عنيفة ضد سياسة بلير تجاه الطاقة النووية

تجوب بريطانيا في الآونة الأخيرة عاصفة من الاحتجاجات ضد مخططات الحكومة لبناء مفاعلات نووية جديدة، حيث نادت منظمة "المحافظون على البيئة "مخيم من أجل حماية البيئة - Camp for Climate Action" لإقامة مظاهرة اعتصام على أبواب مصنع توليد الطاقة بالفحم "دراكس - Drax" في مدينة "يوركشاير" ضد سياسة الطاقة لحكومة "توني بلير".
وكان أعضاء الجماعة المعارضة "أعد الطاقة إلى رشدها - Reclaim Power" قد ربطوا أنفسهم في مطلع هذا الأسبوع ببوابات الدخول إلى معامل الطاقة النووية "بريتيش اينيرجي - British Energy" في "هارتليبول" في مقاطعة "تيسيدي"، وذلك احتجاجا على القرار الأخير للحكومة ببناء مفاعلات ذرية جديدة في بريطانيا. ويُطلق الشارع البريطاني على المنطقة المحيطة بمفاعل الطاقة "دراكس" لقب "وادي الميغاوات - Megawatt-Valley" وذلك بسبب وجود العديد من مفاعلات الطاقة في هذه المنطقة، ويخمن أن الجيل الجديد من مفاعلات الطاقة ستبنى هناك.
وليست جماعات حماية البيئة التقليدية وجماعات المعارضة والاحتجاج أمثال "السلام الأخضر - Green Peace" هي وحدها فقط المستاءة من برنامج الطاقة الجديد للحكومة. صحيح أن الكثير من البريطانيين يعرفون أن مصدر الطاقة الضروري في المستقبل يجب أن يخلو من الغازات المسببة للانحباس الحراري، ولكن هناك آراء متضاربة تشكك في مصداقية هذا القول: فخلال الخمسينيات والستينيات لم تعر الحكومة البريطانية أي اهتمام لتطوير منهاج محدد للتخلص من الفضلات النووية بصورة نهائيـة. وكذلك تتابع حكومة رئيس الوزراء الحالي "توني بلير" نهج الماضي ولا تعير أي انتباه في سياسة الطاقة الجديدة المتجهة لبناء مفاعلات نووية جديدة حول موضوع التخلص النهائي من الفضلات النووية. وفي تقرير الطاقة الذي قدمته أخيرا الحكومة البريطانية صرحت بأن عملية التخلص من النفايات النووية ستكون من مهمة القطاع الخاص وكذلك التمويل، ولكن كيف ستكون طبيعة عملية وآلية التخلص من النفايات النووية مازال هذا أمرا غير معروف سواء لما سيقذف به برنامج الطاقة الحالي ولما سترمي به المفاعلات النووية الجديدة من نفايات مشعـة.
أخيرا انتقدت اللجنة البرلمانية خطط الحكومة في استغلال الطاقة النووية وقالت "كل محاولات الحكومات البريطانية لغاية الآن للعثور على وسيلة مجدية للتخلص من النفايات النووية كانت تعيسة وباعثة لليأس". ففي الحقيقـة عندما بدأت بريطانيا في الخمسينيات والستينيات بوضع برنامجها النووي المستغل في الطاقة الاستهلاكية، لم تبذل أي جهد لمناقشة مسألة التخلص من النفايات الذريـة، فمنذ انطلاقة البرنامج تم تخزين الفضلات بصورة بينية في بقع عديدة في بريطانيا. منذ عام 1959 تستخدم بريطانيا موضع النفايات "دريغ - Drigg" الذي يقع على بعد 10 كيلومترات جنوب "سيلافيلد - Sellafield"، فهناك يتم منذ عشرات السنين تخزين النفايات النووية ذات درجة خطورة متدنية في مستودعات محكمة السداد من الإسمنت المسلح (Concrete). موضع التخزين هذا ممتلئ حاليا لغاية النصف، ومازال فيه متسع لنحو 000 800 متر مكعب من النفايات النووية. وإذا ما تم بناء مفاعلات نووية جديدة، فيجب بناء موضع تخزين آخر.
وأما بالنسبة للنفايات ذات درجة خطورة متوسطة وعالية فقد اختارت الحكومة البريطانية في الخمسينيات والستينيات طريقة غريبة مثيرة بدرجة عالية للجدل. الحكومة كانت تدفن النفايات في البحر، حتى جاءت "اللجنة الملكية لتلوث البيئة" ووضعت حدا لطريقة التخلص من النفايات هذه. وتم تأسيس لجنة أخرى وهي اللجنة التنفيذية لنفايات المصانع النووية"، مهمتها وجود مواقع في بريطانيا للتخلص من النفايات، ولكن المخططات باءت بالفشل أمام معارضة الشعب.
في عام 2003 أدرجت الحكومة البريطانية تحت قيادة الحزب الحاكم "لابور" لجنة أخرى هي "لجنة إدارة النفايات النوويـة" (كو ار دبليو إم - CoRWM)، مهمتها تحليل جميع الاحتمالات المختلفة للتخلص من النفايات. وفي نيسان (أبريل) 2004 وجدت اللجنة حلا للمشكلة تمثل في أخاديد تحت سطح الأرض بين طبقات الصخور على عمق لايقل عن 250 إلى 1000 متر. وبمجرد التخلص من النفايات النووية المتواجدة حاليا في بريطانيا، يجب بناء موضع تخزين سيكلف إنشاؤه ما يقارب 15 مليار دولار. وإذا ما أضيفت نفايات نووية من عشرة مفاعلات نووية جديدة على سبيل المثال، فيجب حينئذ توسعة موضع التخزين بنصف الحجم المدروس.
ما يناقشه الخبراء حول التخزين النهائي بصورة جيولوجية مستنبط في الواقع من عملية تطبق حاليا في فنلندا والسويد والولايات المتحدة الأمريكية. وحسب الدراسات الجيولوجية يصلح ما يقارب 30 في المئة من أرض بريطانيا كموضع تخزين نهائي للنفايات النووية. لكن وحتى في حالة التسارع في التخطيط فإن بناء مثل هذا المخزن النهائي الجيولوجي في أعماق الأرض لن ينتهي قبل عام 2040.
ومن جانبها نصحت اللجنة البرلمانية أخيرا بتقديم حوافز للمناطق والمدن من أجل المساهمة في التخلص من النفايات النووية. فتبعا لنهج فنلندا يحصل على فوائد وحوافز وتعويضات مالية كل من يسجل نفسه كموقع للتخلص النهائي من النفايات النووية، ولكن بريطانيا في الواقع بعيدة كل البعد عن هذا المنهاج. ولهذا السبب انتقدت اللجنة البرلمانية في صيف العام الحالي الحكومة لشروعها في بناء مفاعلات نووية جدية دون أن تضع دراسة جدية في تحديد مواقع التخلص من النفايات أو أن تقيم على الأقل أبحاثاً ونصائح لجنة إدارة النفايات النووية CoRWM.
المنظمة الحكومية المسؤولة عن تسجيل النفايات النووية "نيركس - Nirex" صرّحت بأنه في بريطانيا تجمع حتى نهاية عام 2005 ما يزيد على 2,3 مليون متر مكعب من النفايات النووية، 90 في المئة نفايات مفاعلات قديمة، وترب ملوثة نوويا ونفايات نووية ذات درجة خطورة متدنية من مصادر أخرى، وأما الباقي فهي نفايات ذات درجة خطورة متوسطة. وتبلغ كمية النفايات المشعة ذات درجة خطورة عالية جدا فقط 1300 متر مكعب، أي 1 في المئة فقط من إجمالي الكمية. هذه المواد يتم تسخينها في مفاعل إعادة التحويل في مدينة "سيلافيلد" لدرجات حرارة عالية جدا حتى تصبح مسحوقا، وبعدها يتم تغليف البودرة في أوانٍ منصهرة من الزجاج وتصبح حينها جاهزة للتخزين النهائي. وحسب أنباء وردت من "نيركس"تم في بريطانيا لغاية الآن صناعة ما يقارب 460 مترا مكعبا من هذه المادة الخاصة للتخزين النهائي للمواد المشعة عالية الخطورة.
ولغاية الآن يتم في بريطانيا نقل النفايات المشعة من تسعة مفاعلات نووية بالقطار ليلا إلى "سيلافيلد".
وانتهزت منظمة حماية البيئة العالمية "السلام الأخضر" في أب (أغسطس) الماضي هذه الفرصة من باب الطرافة، وعرضت في موقعها الإلكتروني خطة مسار هذه القطارات. خطة المسار بينت أن هناك بعض القطارات تنقل ثلاث مرات في الأسبوع مواد مشعة عبر العاصمة لندن، مما أثار وبفجأة غضب رئيس بلدية لندن "كين ليفنغستون". وترافق إعلان خطة المسار مع أيام الرعب التي سادت بريطانيا حين علمت باحتمالية وقوع أعمال إرهابية على رحلات جوية قادمة من لندن إلى الولايات المتحدة.
لجنة إدارة النفايات و"نيركس" قامتا مسبقا بنشر حسابات للنفايات النووية المحتمل تراكمها، في حالة بناء عشرة مفاعلات نووية جديدة من طراز "ويستنغهاوس-ايه بي 1000 - Westinghouse-AB1000". فتبعا للحسابات ستزيد نسبة نفايات الدولة الناتجة من استخدام التكنولوجيا المتطورة للمفاعلات الجديدة 10 في المئة "فقط". ولكن درجة إشعاع النفايات النووية من هذه المفاعلات في بريطانيا ستزيد بعشرة أضعاف، مما يعني أن مقدار المخازن الخاصة للتخلص النهائي من هذه النفايات سيزيد بنسبة 87 في المئـة.
هذا وجاء في التقرير الذي قدمته اللجنـة البرلمانية أنه "بعد 100 عام سيتضاعف إشعاع النفايات النووية في بريطانيا، حتى ولو لم يتم بناء المفاعلات الجديدة". وأفاد التقرير بأنه لهذا السبب يجب على الحكومة البريطانية تقييم ما إذا ستكون قادرة أخلاقيـا على بناء هذا الجيل الجديد من المفاعلات النوويـة. وبالطبع يجب على الحكومة في الوقت نفسه وضع تقليل نسب انبعاث الغازات الحراريـة بعين الاعتبار.

الأكثر قراءة