التغلب على قضايا الالتزام التي تثيرها التعاملات المصرفية الإسلامية

التغلب على قضايا الالتزام التي تثيرها التعاملات المصرفية الإسلامية

إن برامج الكمبيوتر اللازمة لتشغيل التعاملات المالية الإسلامية يجب أن تفي بالمتطلبات التي يفرضها المجلس الشرعي، بمعنى أنها يجب أن تحتفظ بسجل محاسبي واضح يبين تسلسل التعاملات المالية بحيث لا يوضع سعر على النقود نفسها.
نحن على عتبة تغيرات هائلة في طرق التعاملات المصرفية لكثير من الناس. وإن المجتمع المصرفي الدولي بدأ يدرك مقدار الطلب على الخدمات المالية الإسلامية من قبل العملاء، وأخذ عدد لا يستهان به من البنوك الكبيرة بإجراء دراسات حول هذه السوق. ورغم ما ينطوي عليه هذا القطاع من مكاسب للسوق، إلا أنه يشكل تحديات تكنولوجية لا يستهان بها في تطوير وتنفيذ أنظمة تتفق وأحكام الشريعة الإسلامية. فما هي قضايا الالتزام التي تثيرها التعاملات المصرفية القائمة على الشريعة الإسلامية؟ هل يحسن بالبنوك استخدام برامج كمبيوتر جاهزة، أم لا مفر أمامها من وضع برامجها بنفسها؟ وهل هناك مجال "لتفصيل" برامج كمبيوتر لتناسب كل بنك على حدة؟

الالتزام
إن البنوك بطبيعة الحال معتادة على التعامل مع قضايا الالتزام، فهي جزء من طبيعة عملها. وتخضع البنوك في معظم البلدان لأنظمة المحاسبة المحلية والعالمية، مثل مقاييس بازل 2 ومقاييس المحاسبة الدولية. وإن مخالفة الأنظمة المذكورة يمكن أن تكلف البنك سمعته، ويمكن أن تؤدي إلى خسارته لكثير من الفرص، بل وربما التعرض لفرض غرامات جزائية عليه.
ولكن دخول سوق التعاملات المصرفية الإسلامية يثير سلسلة مختلفة من قضايا الالتزام، وبالتالي يعرض البنك لمخاطر تضاف إلى جانب التزامه بالأنظمة الدولية العامة. أهم هذه القضايا هو أن البنوك الإسلامية تواجه مستوى من التنظيم يفرضه المجلس الشرعي المحلي الذي يتولى تنظيم الشؤون المالية. ويختلف تفسير الأحكام الشرعية من مجلس لآخر، ولذلك فما يكون مقبولاً لمجلس ما قد لا يكون مقبولاً لمجلس آخر. على سبيل المثال، يجادل المجلس الشرعي في بريطانيا بأن نظام الرهونات الإسلامية السائدة يتفق مع أحكام الشرع، في حين يعترض خبراء آخرون على ذلك بشدة.
فإذا أعلن أحد المجالس الشرعية أن بنكاً معيناً يجري تعاملات لا تتفق مع أحكام الشرع، فإن ذلك يمكن أن يقضي على سمعة البنك. ذلك أن الموضوع ليس مجرد التزام بكل صغيرة وكبيرة في الأنظمة المصرفية المحلية والدولية، وإنما سيظهر البنك في صورة من يسيء لعقيدة زبائنه "ويلوث" أموالهم بالتعاملات الربوية، الأمر الذي سيعني أن هؤلاء الزبائن ارتكبوا أمراً مخالفاً للشرع.
ولذلك، وحتى يصبح بالإمكان استخدام برامج كمبيوتر مؤهلة للتعاملات المالية الإسلامية الصحيحة، لا بد لهذه البرامج من أن تفي بمتطلبات المجلس الشرعي المحلي. ولا بد لها بالتالي من أن تبين بوضوح ضمن السجلات المحاسبية تسلسل التعاملات المالية بين البنك وزبائنه، حتى يكون من الواضح أن جميع التعاملات التي من هذا القبيل تتضمن بضائع وخدمات "حقيقية"، وأنه لم يفرض سعر على الأموال نفسها. معنى ذلك أنه لا يكفي أن تتم التعاملات المصرفية حسب الشريعة الإسلامية، وإنما يجب كذلك أن تكون هناك دلائل ثابتة على سلامة التعاملات نفسها.
جدير بالذكر أن المنظمة الرئيسية التي تضع المعايير المحاسبية، وهي "هيئة المحاسبة والمراجعة للمؤسسات المالية الإسلامية"، تقدم العون الكبير لشركات البرمجة. وقد وضعت الهيئة منذ إنشائها في عام 1991 عدداً من المقاييس التي تراعي احتياجات البنوك الإسلامية والمجالس الشرعية في جميع أنحاء العالم. وتساعد المقاييس المذكورة على منع تضارب القوانين المحلية معها، مما يعني بالتالي أنه يمكن تقديم برامج كمبيوتر جاهزة على النطاق العالمي لا تحتاج إلا إلى تعديلات بسيطة حسب وضع كل بلد.

برامج الكمبيوتر الجاهزة
كيف ينبغي على البنوك تأمين نظام يفي بمتطلبات الالتزام التي يفرضها المجلس الشرعي وفي الوقت نفسه بمتطلبات السلطات الحكومية؟ إن الأنظمة البنكية الأساسية اللازمة لتشغيل الخدمات المالية الملتزمة بأحكام الشريعة الإسلامية تختلف عن الأنظمة التي تستخدمها البنوك الربوية. على سبيل المثال فإن عدم القبول بمبدأ فرض سعر للفائدة، وهو المبدأ الذي يعتبر جوهر التعاملات المصرفية الإسلامية، يعني أن البرامج التقليدية لا تصلح بأي حال للتعاملات الإسلامية.
إن وضع أسعار الفائدة وتقييدها على الزبائن يحددان طبيعة المنتجات التي يمكن بيعها والجهات التي يمكن بيعها لها. كما أن جوهر جميع برامج الكمبيوتر التقليدية المستخدمة في البنوك يقوم على مفهوم سعر الفائدة. ولذلك فإن الموضوع لن يحل بمجرد وضع برنامج كمبيوتر مصمم للتوافق مع أحكام الشريعة فوق البرنامج الأساسي الذي يستخدمه البنك في الأصل.
ويجد كثير من البنوك أن التكلفة المترتبة عليها في سبيل تقديم خدمات مصرفية إسلامية ليست في مثل سهولة إطلاق خدمة جديدة. بل إن عدداً من البنوك لم يمض قط شوطاً أبعد من استخدام النسخة التجريبية لبرنامج الكمبيوتر، الذي هو بحد ذاته أمر مكلف.
ووجدت البنوك الأخرى التي تقدم خدمات مصرفية إسلامية في البلدان الإسلامية وغير الإسلامية، وجدت لزاماً عليها أن تعد وحدة مستقلة لتشغيل النظام. وهذا هو السبيل الوحيد لضمان عدم تلوث أموال العملاء أو إقراضها مقابل فوائد ربوية أو استثمارها في صناعات محرمة.
وفضل كثير من البنوك إنشاء نظام لتقديم الخدمات المصرفية الإسلامية باستخدام برامج معدة سلفاً. ويعني اختيار هذا السبيل أن البنوك تستفيد من تقليص المخاطر المتضمنة في تطوير نظم جديدة، وتستفيد كذلك من الأنظمة التي ثبتت جدواها بشكل مستمر، ومن مواعيد الصيانة الدورية، ومن سرعة التنفيذ، ومن انخفاض التكاليف. وأثبتت هذه الأنظمة فعاليتها الفائقة ضمن البنوك المطالبة بالعادة بقدر كبير من الالتزام بالأنظمة، وأن استخدامها هو أفضل بكثير من تطوير برنامج كمبيوتر من الصفر.
لاحظ أن البنوك الطامحة لدخول قطاع الخدمات المالية الإسلامية تحتاج إلى العمل مع الموردين المطلعين على طبيعة العقلية الإسلامية، والتي اكتسبوها في الغالب من خلال عملهم في البلدان الإسلامية في الشرق الأوسط وآسيا. وهذه الشركات في العادة تمتلك فرقاً لتطوير البرامج وموظفين يتعاملون مباشرة مع الزبائن ولديهم خبرة في التعامل مع المجالس الشرعية، وبإمكانهم تحويل الجوانب التطبيقية للأحكام الشرعية إلى منتجات تكنولوجية عملية.
جدير بالذكر أن استخدام البرامج الجاهزة لا يعني مجرد تناول برنامج عام عن الرف ووضعه داخل جهاز الكمبيوتر. ذلك أن البنوك تريد أنظمة لتشغيل الخدمات المالية الإسلامية من النوع الذي يمكن "تفصيله على المقاس". إذ لا يتوقف الأمر على وجود اجتهادات مختلفة حول الأحكام الشرعية. فالمؤسسات المالية تحرص في الغالب على أن تقوم هي بنفسها في وضع قواعد خاصة بها، تكون ملتزمة بأحكام الشرع وتنظم في الوقت نفسه كيفية احتساب واقتسام الأرباح بين البنوك والعملاء. كما أنها في الغالب تحتاج أيضاً إلى "تفصيل" السبيل الذي يتيح لها تجميع استثمارات العملاء وترتيبها على نحو يكفل تنظيم عمليات اقتسام الأرباح فيما بينهم.
وتعمل بعض البنوك مع شركات توريد برامج الكمبيوتر لتطوير وتحديد التفاصيل التي من هذا القبيل، في حين يفضل بعض البنوك الأخرى أن تكون لديها فرق الكمبيوتر العاملة لديها والقادرة على تطوير هذه التغييرات بما يناسب احتياجاتها. إذ تستطيع الفرق العاملة في المجالات الحساسة مثل تطوير البرامج وتسيير معاملات العملاء، تستطيع أن تضمن أن بمقدورها أن يتمتع العملاء بالمرونة التي يرغبون بها وأن يكونوا واثقين في الوقت نفسه من التزام البنك بالأحكام الشرعية.

الخوارزميات
هؤلاء الأشخاص الذين يتمتعون بالخبرة في تطوير البرامج ومجالات عمل البنوك الإسلامية، يعملون مع شركات تطوير البرامج لإضافة الخوارزميات التي تحدد حساب الأرباح وتوزيعها إلى النظام، وذلك لضمان التزام البرامج التي يكتبون بأحكام الشريعة الإسلامية انطلاقاً من العمليات المصرفية الأساسية إلى جميع أنواع التعاملات. جدير بالذكر أن الخوارزميات هي إجراءات أو قواعد تحدد التسلسل المنطقي لتنفيذ خطوات معينة تتكرر باستمرار، وتتم ترجمتها بعد ذلك إلى برنامج للكمبيوتر.
وفي هذه الحالة تتعامل الخوارزميات مع الكيفية التي تدير بها البنوك نظام اقتسام الأرباح لتمييز مقدار الربح ومقدار ما يتم الاتفاق عليه من الزيادة على الأسعار وفصلها عن نشاطات التمويل والاستثمار من جهة، ولمكافأة الذين يودعون مدخراتهم لدى البنك من جهة أخرى، دون استخدام الربا.
ولا يخفى على القارئ أن كلمة "الخوارزمي" مأخوذة بشكل مباشر من اسم واحد من أشهر علماء الرياضيات في تاريخ الإسلام في القرن الثالث للهجرة (القرن التاسع الميلادي) وهو أبو عبد الله محمد بن موسى الخوارزمي، الذي عاصر المأمون، وأعجب به المأمون وعينه على رأس خزانة كتبه. ويعتبر كثيرون أن الخوارزمي، الذي ابتكر علم الجبر، هو مبتكر مفهوم الخوارزمية في الرياضيات وعلم الحاسوب، (مما أعطاه لقب أبي الرياضيات الإجرائية، أي علم الكمبيوتر والبرمجيات)، حتى إن كلمة خوارزمية في العديد من اللغات (ومنها algorithm) مشتقة من الترجمة اللاتينية لاسمه.
وتعمل فرق التطوير الناجحة مع العملاء لتطوير منتجات تكون على مستوى يكفل استيعاب الأحكام الشرعية ضمن الأعمال الموكلة إليهم. ويقوم منهج مهندسي البرامج على التفصيل الدقيق لأجزاء البرنامج كل على حدة، وربطها بعد ذلك لتكوين مقاطع أكبر من سابقتها، وهكذا إلى أن يتشكل النظام بكامله. ومن خلال هذا المنهج يستطيع المبرمجون أن يضمنوا أن الحلول المتكاملة التي يتوصلون إليها في النهاية تستند إلى أسس راسخة من الأحكام الشرعية. وإن الخبرات التي من هذا القبيل هي الخبرات التي تحتاجها البنوك الراغبة في الدخول في التعاملات المالية القائمة على أحكام الشريعة الإسلامية.

الصعوبات
إن سوق البنوك الإسلامية تعيش حالة من الازدهار الكبير، ويسعى كثير من اللاعبين إلى اقتناص هذه الفرصة. ولكن عليهم أن يتذكروا أنه ليس من السهل دخول هذه السوق، على اعتبار وجود كثير من الأنظمة التي تحدد عمل البنوك فيها. وبالإضافة إلى العقبات التي تشكلها الأنظمة، ينبغي أن تدرك البنوك أن عملاءها المسلمين سيتوقعون الحصول من هذه البنوك على النطاق نفسه الذي يحصل عليه العملاء الآخرون من حيث المنتجات والخدمات والقيمة مقابل أموالهم.
ففي بريطانيا على سبيل المثال، عملت شركة مايسيس Misys مع بنك بريطانيا الإسلامي لمساعدته على القدوم إلى السوق. وكان البنك يعلم أن عليه تقديم نطاق تنافسي من المنتجات البنكية. وكان عليه أن يثبت أن مفهوم اقتسام الأرباح المتحصلة من الاستثمارات والمدخرات، هذا المفهوم قادر على التنافس مع العوائد المتحصلة من الفوائد الربوية التي تقدمها البنوك غير الإسلامية. فإذا قصر البنك عن فعل ذلك فإن نسبة محدودة فقط من مسلمي بريطانيا (البالغ عددهم مليوني مسلم) ستكون مستعدة لنقل تعاملاتها معه.
ولذلك يتعين على البنوك أن تركز على تصميم خدمة قادرة على اجتذاب العملاء المسلمين من ذوي العقلية الحديثة. ومن الممكن عملياً بناء نظام بنكي أساسي من الصفر، ولكن ذلك سيكون عملية مكلفة للغاية وتستهلك وقتاً كثيراً، فضلاً عن أنها ستضيف عنصراً جديداً من المجازفة.
وحتى تتمكن البنوك من الاستفادة من سوق المصرفية الإسلامية التي تتنامى بسرعة، ينبغي عليها البحث عن موردين مستقلين لديهم سجل موثوق في سوق المصرفية الإسلامية. وبهذه الطريقة تستطيع شركة البرمجيات تقديم الأنظمة الأساسية التي تحتاجها، وبعد ذلك يستثمر البنك وقته في تطوير خدمات القيمة المضافة التي يطلبها العملاء.

الأكثر قراءة