مواقف السيارات في المدن .. الاستثمار المنسي من قبل الأمانات
تكلمت في مقالي قبل أسبوعين, بعنوان "وقوف السيارات في الشوارع .. فوضى ومخالفات واضحة" فمن ظاهرة الوقوف الخاطئ للمركبات في الشوارع, وأمام الأسواق والمرافق الحكومية, والمساجد, وما يسببه ذلك من أذى للآخرين, وتعطيل لمصالحهم, فضلا عن إسهامه بشكل واضح في عرقلة انسياب الحركة المرورية, وزيادة الحوادث, وتساءلت عن دور أجهزة المرور في المتابعة والتنظيم, وتمنيت لو اهتمت بهذا الجانب ضمن اهتماماتها الملحوظة, والمقدرة, بتنظيم الحركة المرورية ومتابعة المخالفين بعامة.
واليوم أطرق الموضوع من زاوية أهمية الاستثمار الاقتصادي لمواقف السيارات من قبل البلديات (الأمانات), باعتباره يشكل موردا مهما من مواردها الذاتية, إذ الملاحظ هو عدم اهتمام الأمانات بهذا الدخل ضمن اهتمامها بعناصر الدخل الأخرى, وذلك خلافا لما تجري به القاعدة في غالبية دول العالم, على أساس أن البلديات هي التي تملك المواقف العامة وتخصصها من ممتلكاتها في ضوء احتياجات المدينة, وترخص بإنشائها, سواء كانت هذه المواقف واقعة على الشوارع العامة, أو منشأة كمواقف مستقلة, وعلى أساس أن المواقف يمكن أن تكون أحد مصادر دخل البلديات.
إن الفلسفة التي تقوم عليها فكرة تنظيم استخدام واستثمار المواقف العامة هي أنها تعد من المرافق العامة التي يشترك في حق الانتفاع بها السكان كافة, دون استئثار بعضهم بهذا الحق دون البعض الآخر, وأن الوسيلة العادلة لتنظيم هذا الحق, وجعله مشاعا للجميع, هو فرض مقابل رمزي للاستخدام يكون الهدف منه إتاحة حق الاستخدام بين أكبر عدد ممكن من الناس لكي يتمكنوا من الوصول إلى الأماكن التي يقصدونها لقضاء حاجاتهم, وألا يكون هذا الحق مقصورا على من يسبق إلى هذه المواقف ويحتلبها أطول فترة يريدها بدون مقابل!! في حين يتمنى غيره لو أتيح له استخدامها بمقابل وهو الأمر الملاحظ أنه يغلب على طابع استخدام المواقف لدينا, حيث يستأثر بها القلة طيلة وقت عمل المحلات التجارية والدوائر الحكومية, مما يضطر الأكثرية إلى الوقوف المخالف, والغريب الملاحظ أن أكثر من يستحوذ على المواقف الواقعة أمام المحلات التجارية هم موظفو تلك المحلات, الأمر الذي يحول دون استفادة الزبائن منها, ويتسبب بالتالي في خسارة المحلات.. والمتوقع أن الغالبية من الناس تفضل تنظيم المواقف أمام المحلات التجارية في الأماكن المزدحمة, وجعلها بمقابل رمزي لكي يتسنى لكل متسوق ومراجع أن يجد مكانا يوقف فيه سيارته, بدلا من اللف والدوران على المكان عدة مرات بحثا عن موقف, ثم الوقوف بشكل مخالف في نهاية الأمر, رغم ما يسببه ذلك من إرباك وتعطيل, وسد لمنافذ الدخول والخروج على الآخرين.
وكمثال على نجاح التنظيم ما لوحظ مؤخرا في مواقف مستشفى الملك فيصل التخصصي في الرياض, من تنظيم لمواقف العيادات الخارجية, وجعلها بمقابل, حيث أصبح المرضى والمراجعون يجدون مواقف لسياراتهم بيسر وسهولة, بعدما كان الأمر في السابق في غاية الصعوبة والفوضى, وكان من حسنات التنظيم أيضا اختصار وتقصير وقت مكوث السيارات, وبالتالي رفع كفاءة المواقف وقدرتها على استيعاب أكبر عدد من السيارات على مدار الساعة.
وفي كل دول العالم تتولى البلديات توفير المواقف العامة وتنظيمها, وتحديد ما يكون فيها بمقابل, وبخاصة في وسط المدينة, والأماكن المزدحمة, وقلة الحركة التجارية, ويتم ذلك عن طريق تركيب عدادات للمواقف العامة في الشوارع المزدحمة لها القدرة على حساب الوقت بعد أن يقوم سائق المركبة بوضع المقابل المادي الذي يكون عبارة عن عملة معدنية أو ورقية حسب الأحوال, وحسب الوقت الذي يريد البقاء خلاله, ومن طبيعة هذه العدادات أن تحدد وقت الوقوف بحيث لا يزيد في الغالب على ساعتين, وذلك لكي يتمكن أكبر عدد ممكن من أصحاب الحاجة من استخدامها, أما المواقف الأخرى كالساحات المكشوفة فإنه يتم تنظيم الوقوف فيها بقسائم تحدد أجرة الوقوف بالساعة, وأحيانا باليوم.
ويقتصر تنظيم المواقف من قبل البلديات عادة, على المواقف التي لا تعد من أملاك الغير, أو مقتطعة من حدود الملكيات وفقا لمقتضيات التنظيم العمراني, كما أن الهدف من التنظيم في الدرجة الأولى ليس الحصول على دخل للبلديات, وإنما هو استفادة أكبر شريحة من السكان من المواقف, واستفادة المحلات التجارية أيضا من تعاقب المتسوقين على هذه المواقف, بدلا من احتلالها من قبل موظفي تلك المحلات, وحرمان المتسوقين منها, وبالتالي معاناة تلك المحلات من انصراف المتسوقين عن محلاتهم بسبب عدم توافر مواقف قريبة منها, وإذا أضيف إلى ذلك التذكير بأن طبيعة المتسوقين لدينا, وغالبيتهم من النساء, يفضلون الوقوف أمام المحلات التي يتبضعّون منها, أو قريبا منها, لأسباب عديدة, منها ما يعود إلى الثقافة العامة, أو إلى عوامل الطقس, أو الازدحام وصعوبة عبور المشاة, لتأكد لدينا أهمية الحاجة إلى تنظيم المواقف, وتضافر جهد كل من الأمانات وأجهزة المرور لتحقيق ذلك.
وعودا على بدء, نستطيع تلخيص الفوائد الكثيرة التي تعود على الوطن والمواطن من تنظيم مواقف السيارات في الأماكن المزدحمة في المدن, على النحو الآتي:
1 ـ إشاعة حق استخدام المواقف والاستفادة منها بين أكبر عدد ممكن من السكان والمتسوقين, إذ سيكون بالإمكان الحصول على المواقف بسهولة, لعدم استمرار السيارات في المواقف أكثر من المدة المقررة للوقوف, الأمر الذي سيضطر غير المتسوقين إلى البحث عن أماكن بدون مقابل في الساحات العامة والشوارع الجانبية لإيقاف سياراتهم.
2 ـ تحقيق دخل إضافي للأمانات يدعم مواردها الذاتية, ويزيد من إمكاناتها وقدرتها على تحقيق أهدافها في تنظيم الخدمات البلدية, والرفع من مستواها علما بأن دور الأمانات سيكون مقتصرا على تحديد الأماكن التي يمكن استثمارها وتنظيمها والإشراف عليها, أما الإدارة والتشغيل فينبغي أن يُعهد بها إلى القطاع الخاص عن طريق طرحها في منافسات عامة.
3 ـ الرفع من كفاءة المواقف, وقدرتها على استيعاب أكبر عدد من السيارات نتيجة تعاقب السيارات على استخدامها, وحرص السائقين على عدم المكوث مدة طويلة لتفادي زيادة الأجرة.
4 ـ إن التنظيم سيسهل على أجهزة المرور أداء مهماتها في الرقابة والمتابعة والإشراف والسيطرة على العملية المرورية برمتها, ويمكنها من معرفة السيارات المخالفة وتحرير المخالفات, ويسهل على الناس قضاء حاجاتهم, ويسهم في انسياب الحركة المرورية في الشوارع, ويختزل الوقت الذي تستغرقه رحلات المركبات, وانتقال الناس لقضاء حاجاتهم.
5 ـ سيضفي التنظيم مظهرا حضاريا على المدن وحركة السيارات بصفة عامة, وسيعطي مؤشرا على التقدم وحسن التنظيم للأجانب القادمين من المملكة, وسيزرع في نفوس السائقين محبة التنظيم والالتزام, وسيتعودون مع مرور الوقت على عدم الوقوف إلا في المكان الصحيح, تأسيا بغيرهم, وخوفا من العقوبات النظامية.
والله من وراء القصد.