من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وسلم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فإن النفس البشرية يتعلق فهمها للأشياء بالأدلة، وتتعلق الأدلة بالبراهين ولا تسلم تلك النفس ولا تذعن إلا عند عجزها عن مجاراة الحجة بالحجة، وعندما يتعلق الأمر بالمغيبات فإنها تحتاج لكي تذعن وتنقاد إلى أمر معجز خارق للعادة، ولهذا أيد الله سبحانه رسله بالمعجزات، وفي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " ما من الأنبياء من نبي إلا قد أعطي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيت وحياً أوحى الله إليّ فأرجو أن أكون أكثرهم تبعاً يوم القيامة"، فالقرآن الكريم معجزة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم الخالدة، فقد أعجز كفار قريش بعد التحدي عن الإتيان بمثله، بل الإنس والجن جميعاً تحداهم أن يأتوا بمثله كما قال تعالى: (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْأِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً([الإسراء:88]، فتحديه لكفار قريش وهم أهل الفصاحة والبلاغة، وأهل اللسان والبيان وهم الذين يقيمون أندية الشعر وبلغة عصرنا مهرجاناته، ثم بعد ذلك تدور بين النبي صلى الله عليه وسلم وهؤلاء المعاندين الحروب الطاحنة التي يقتل فيها صناديدهم وزعماؤهم؛ لدليل على العجز التام عن معارضته فضلاً عن الإتيان بمثله، ولو كان بمقدورهم ذلك لفعلوه من أول وهلة ولحقنوا دماءهم، ولصدوا الناس عن تغيير دينهم.
وكما أن الرسول محمد صلى الله عليه وسلم هو النبي الخاتم فإن معجزته بقيت خالدة، وبقاء القرآن على مدى القرون محفوظاً من الزيادة والنقصان دليل من أدلة إعجازه، وإلا كيف يبقى كتاب نزل في أمة أمية دون أن يفقد منه شيء، أو يحرف فيه، أو يعتريه زيادة أو نقصان، فهو كما نزل لم يزد فيه حرف ولم ينقص منه حرف، غضاً طرياً كأنما أنزل البارحة؛ وذلك لأن الله تكفل بحفظه ولم يوكل ذلك لأحد من خلقه، فكما أنه سبحانه تكلم به على الحقيقة وأنزله على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم فقد تكفل بحفظه كما قال تعالى: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ([الحجر:9].
والحديث عن المعجزات التي يحويها القرآن الكريم لا يمكن سردها في عجالة، بل إن سرد وجوه إعجاز القرآن يحتاج إلى مجال رحب وميدان للكتابة فسيح، ولكن يكفي من القلادة ما أحاط بالعنق، ففي الإعجاز البلاغي ما لا يمكن وصفه أو الإحاطة بكنهه؛ حتى أن الصورة القصيرة مثل سورة الكوثر التي لا تجاوز ثلاث آيات فيها من النكات البلاغية التي يحار لها الفصحاء البلغاء، كما أن القرآن يحوي من الأخبار عن الأمم الغابرة الموغلة في القدم ما لا يأتي به إلا علام الغيوب، وفيه من الإعجاز التشريعي وسن النظم التي تضبط وتحكم المجتمعات ما لا يمكن لأمي في مجتمع جاهلي أن يأتي به من عند نفسه؛ ولكنه من عند الله الذي يعلم ما يصلح للمجتمع البشري وما يضره، أما الإعجاز العلمي فإن له شأنا آخر خصوصاً في هذا العصر الذي تميز بالتقدم في مجال العمل التطبيقي، ويحار من يريد التحدث عن ذلك، فهل يتحدث عن علم الفلك وما جاء في القرآن من حديث عن النجوم, وعن الصعود في الفضاء، أم عن الأجنة وتخليقها، أم عن السحب وتكوينها، أم عن الرياح وتلقيحها، وقبل الاستطراد في هذه الوجوه من الإعجاز أنبه إلى قضية مهمة في هذا الجانب وهي أن القرآن الكريم كتاب هداية وليس كتاب علم تطبيقي لكيلا يتعسف متعسف فيدخل فيه كل شاردة وواردة يجدها في العلوم التطبيقية ويقول جاء القرآن بها، فيخطئ من حيث أراد الصواب، ويكفي من ذلك قوله تعالى: (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الْأِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ، صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ( [الشورى:53]..
والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل،،،
* جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية