نقولا زيادة.. ذاكرة حديدية لم تغفل تفاصيل الزمن

نقولا زيادة.. ذاكرة حديدية لم تغفل تفاصيل الزمن

لم يكن التاريخ بهذا القدر من التشابك والمرض عندما ولد نقولا زيادة، في الثاني من أيلول (سبتمبر) عام 1907 م، كان الطفل الناصري المولود في دمشق لأبوين مسيحيين من الناصرة يختبر مرحلة مميزة في التاريخ العربي الذي سيصبح معقداً بعد ذلك. كان يستعد لاستقبال مرحلة تاريخية أشبه بالفضيحة.
كان مصادفة بالتأكيد كون المرة الوحيدة والطويلة التي سيعيشها هذا الطفل فيما بعد، سيعيشها فلسطينيا، مشتتاً أكثر من مرة، ويتيماً فوق ذلك. لأن الأب الذي جند خلال الحرب العالمية الأولى، مات. وعندما تأتي الحرب سوية مع اليتم. فلا بد أن يكون الفقر ثالثهما، كالحاً ورمادياً: "لما قالت لي أمي إن أبوك مات ما أدركت، واحد عمره 8 سنين شو يعني أبوك مات؟ المهم كانوا من زمان إذا كان الواحد عنده كم قرش ذهب أو غيره ما كان حدا يودّيهم على البنك، كانوا يحطّوهم بالفرشة، فتقت أمي الفرشة وطالت شقفة قماش ملفوف فيها ليرة عصملّية ذهب وقالت لي: نقولا هذا كل ما معنا، أنا أدركت معناها شو كل ما معنا هذه، هذه أدركت أهميتها وصعوبتها أكثر من موت والدي!".
اختلفت الحياة تماماً بعد ذلك، لكن الطفل المقاسي لمصاعب الحياة أكمل تعليمه بنجاح في القدس، ليبتدئ في عام 1924م مسيرته التربوية الحافلة، التي وزعها بين قرى ومحافظات فلسطينه النظيفة يومئذ. ثم انتقل إلى لندن لينال في عام 1939م شهادة البكالوريوس في التاريخ العربي القديم. ثم شهادة الدكتوراة في عام 1950م عن رسالة بعنوان: (سوريا في العهد المملوكي الأول) انتقل بعدها بين جامعات عربية مختلفة للتدريس الجامعي: في القدس، بيروت وعمّان.

صدر له في عام 1943 م كتاب بعنوان (رواد الشرق العربي في العصور الوسطى) ليكون بداية علاقة وثيقة بالتأريخ الذي لا يعرف أحد لماذا اختاره نقولا زيادة هماً ومسيرة حياة. رغم أن المؤرخ نفسه، نقولا، لا يقول أكثر من أنه أغرم بالموضوع فكتبه. ولا يقصد منه إثبات "أمثولة" للإنسان لكي يعتبر منه ويستفيد: "فالعالم يبدو أنه تعلم من التاريخ ألا يتعلم من التاريخ، والدليل على هذا أن الأخطاء نفسها تتكرّر!".
كتب نقولا زيادة رؤاه وذكرياته في عديد من الصحف العربية، كانت أعدادها تكتسب ثقلاً نوعياً ومعرفياً بمجرد أن تترك مساحة كريمة لما يكتبه ويراوح من كونه ذكريات ومشاهدات قديمة من الذاكرة إلى رؤى في الأدب وقليل من السياسة. لم يكن المؤرخ الفلسطيني الذي شاهد الشتات ووعد بلفور وتتالي الحروب شغوفاً بالسياسة مثل كثير من مجايليه الذين اختاروا العمل السياسي في دول الشتات. كان يوجه أنظاره بدلاً من ذلك إلى ما يستهويه شخصياً: في التربية والتعليم والأدب.
ورغم اهتمامه بالأدب، وتعدد علاقاته مع أدباء وكتاب عرب وأجانب، ومتابعته للمنجز الأدبي العربي والأجنبي ( أجاد نقولا إضافة إلى لغته العربية، اللغات اليونانية واللاتينية والألمانية والإنجليزية). إلا أنه ظل كاتباً أقل نجاحاً للأدب. لم تشهد أي محاولاته لكتابة القصة القصيرة مثلاً أي رواج أو شهرة. ربما فُضل أكثر كمؤرخ وشاهد عصر. فلم يكن الكثيرون سيقومون بما قام به.
عاش نقولا زيادة تسعة وتسعين من عمر منظم وجميل، غني بالعطاء والحكايات. غني بذاكرة حديدية لم تغفل تفاصيل الزمن ولم تكن تضطره إلى التدوين أو إلى المذكرات. كتب نحو أربعين كتاباً بالعربية، وستة كتب بالإنجليزية، وترجم ستة كتب من الإنجليزية وواحداً من الألمانية. كان يستعد لعامه المائة بكتاب بعنوان (قرن من حياتي) لكن الموت لم يعرف ذلك، ولم يسعفه. ذهاب نقولا زيادة في وقت كهذا هو خسارة. أو كما يقول الأديب أحمد علي الزين الذي قابله على امتداد حلقتين من برنامج "روافد" في قناة العربية: "نقولا زيادة هذا المتربع على المائة عام لا يحفزك فقط على قراءة التاريخ، بل على حب الحياة، ويعلمك درساً في هذا الحب".

الأكثر قراءة