أوروبا تعيد فتح النقاش حول حرية السوق والاحتكار
أعادت الغرامات المالية التي فرضتها المفوضية الأوروبية على شركة البرمجيات الأمريكية العملاقة "مايكروسوفت" بقيمة 280.5 مليون يورو أي بما يعادل 357.3 مليون دولار لتقاعسها عن الامتثال لقرار صدر في 2004 بشأن إساءة الشركة استغلال مركزها في السوق – أعادت النقاش حول قضية جوهرية من قضايا اقتصاد السوق, هي: ما حجم الحماية والتدخل اللازمين للأسواق؟ ومن المعروف أن المنافسة هي بحق دعامة أساسية من دعائم أي اقتصاد من اقتصادات السوق. فهل السوق بحاجة إلى تدخل الدولة أم أنه قادر على المعالجة الذاتية عندما تقوم شركة كبرى من الشركات ذات السطوة في السوق بفرض أسعار عالية وإعاقة المنافسة ؟
وفي هذا السياق تقول نيللي كرويس مفوضة المنافسة في الاتحاد الأوروبي إن شركة مايكروسوفت تملك حاليا من القوة في السوق أكثر مما ينبغي لها ، وهي تسيء استخدام هذه القوة للإضرار بمنافسيها، وهذا لا ينسجم بحال من الأحوال مع قوانين اقتصاد السوق.
لكن المدرسة الليبرالية، التي تنسب عادة إلى مجموعة الاقتصاديين من شيكاغو تعبر عن وجهة النظر القائلة إن على الدولة أن تمارس سياسة ضبط النفس في مجال التنافسية أيضا. ذلك لأن الدولة، من ناحية، لا معرفة خاصة لديها تؤهلها لاتخاذ قرارات موفقة في هذا المجال، ومن ناحية أخرى فإن المنافسة وحدها كفيلة بنزع ذلك السحر الذي يتمتع به الاحتكاريون. وتقول وجهة النظر هذه إنه طالما بقي السوق مفتوحا لدخول منافسين جدد فإن المنافسة ستفعل فعلها ." لا ينبغي للدولة أن تتدخل ضد ارتفاع الأسعار "، هذا هو ما حذر منه قبل عشرات السنين الحائز على جائزة نوبل فريدريش فون هايك. وفي الحقيقة أن سلطات التنافسية تلتزم عمليا بهذه النصيحة في هذه الأيام إلى حد بعيد.
ولكن ثمة وجهة نظر أخرى أكثر محافظة لا تثق بقدرة السوق على تنظيم نفسه ذاتيا، وبالتالي فهي تطالب الدولة بانتهاج سياسة هجومية في مجال التنافس للحيلولة دون الهيمنة الضارة لشركات كبرى على الأسواق. ومما لا شك فيه أن وجهتي النظر هاتين هما وجهتا نظر محترمتان، ففي مجال الممارسة تتضمن السياسات التنافسية الفعلية عناصر من وجهتي النظر الآنفتي الذكر، مع تزايد في تأثير أفكار مدرسة شيكاغو الناقدة لتدخل الدولة ، خلال السنوات القليلة الماضية . وفي الحقيقة أن قضية "مايكروسوفت" تمثل بشكل جيد نوع الصعوبات التي تصطدم بها السياسات التنافسية .
إن التنازع بين بل جيتس وشركته من ناحية وحماة التنافسية من ناحية ثانية ابتدأ من منتصف التسعينيات في الولايات المتحدة ، حيث كان الشغل الشاغل لـ "مايكروسوفت" آنذاك أن تجعل من " نوافدها " نظام التشغيل المسيطر على الأسواق .
ولم يكن بوسع السلطات عمل أي شيء لتغيير ذلك، وإنما كانت هي تسعى للحيلولة دون سيطرة "مايكروسوفت" على سوق استخدامات الكمبيوتر، ومن أجل ذلك تم التوصل إلى اتفاق بين السلطات و"مايكروسوفت" يمكن الزبائن من استخدام البرمجيات الأخرى على نظام ويندوز لـ "مايكروسوفت" للتشغيل ، أي بكلمات أخرى، الاتفاق على إبقاء سوق أنظمة التشغيل (حيث كانت "مايكروسوفت" هي المسيطرة) منفصلة عن سوق البرمجيات الأخرى من أجل إعطاء فرصة عادلة للشركات المنافسة لشركة مايكروسوفت.
وسارت الأمور على خير ما يرام حتى اقتحمت "مايكروسوفت" الأسواق ببرمجيتها للتصفح الإنترنت أكسبلورر مقابل منافستها النت سكيب, ولهذا سرعان ما انطلقت الاتهامات من قبل الشركات المنافسة بأن "مايكروسوفت" قد خرقت اتفاقيتها مع الحكومة بمجرد أن دمجت الإنترنت إكسبلورر بنظام ويندوز. غير أن "مايكروسوفت" تمسكت بالقول إن الإنترنت أكسبلورر ليس منتجا قائما بذاته وإنما هو أحد تطبيقات ويندوز.
في عام 1998 بدأ النظر في قضية " الولايات المتحدة ضد "مايكروسوفت" "التي انتهت عام 2001 بالاتفاق بين الطرفين، ففي الوقت الذي كان يرغب فيه القاضي في البداية بتفتيت "مايكروسوفت" وانتهت المواجهة بين الطرفين بأن قطعت الشركة على نفسها وعدا بالكشف عن تقنيات ويندوز للشركات المنافسة بشروط معينة . وكان المفروض أن يؤدي ذلك لتنشيط المنافسة . كما تم الاتفاق على أن تقوم وزارة العدل الأمريكية عام 2007 بإعادة النظر فيما تم التوصل إليه، مع احتمال التمديد لعام 2009 . وفي هذه الأثناء اتهمت شركة جوجل مايكروسوفت بعدم الوفاء بوعودها.
وبالنظر إلى النتائج يتبين أن السلطات لم تفعل شيئا لـ "مايكروسوفت" رغم كل التهديدات، وربما كان سبب ذلك هو أن سطوة مايكروسوفت، من وجهة نظر المستهلكين ( وهم من يسعى الاقتصاد لإشباعهم في الأساس) لا تشكل مشكلة كبيرة كما يفترض البعض، بل ربما كان الحال عكس ذلك تماما.
ولهذا امتدح نحو 240 من الاقتصاديين عام 1999 في رسالة وجهوها للرئيس بل كلينتون الخدمات التي تقدمها شركة مايكروسوفت ، كما جاء في الرسالة : " إن المستهلكين ليس هم الذين رفعوا قضية ضد "مايكروسوفت"، وإنما الشركات المنافسة . إن مشتري منتجات التكنولوجيا المتقدمة يحسون بالسعادة بسبب انخفاض الأسعار، وزيادة الإنتاج زيادات كبيرة وتنوع تشكيلة المنتجات لدرجة تأخذ بالألباب. كما أن بعض الشركات تسعى جاهدة للتعويض عن تخلفها في مجال المنافسة عن طريق دعوة الدولة للتدخل ، ومن المعروف أن مثل هذا التدخل من شأنه أن يضعف من الشركات الناجحة . "لقد شكا ميلتون فريدمان الحائز على جائزة نوبل من ميل للانتحار لدي رجال الأعمال مخاطبا منافسي "مايكروسوفت" بسؤالهم: "ترى هل من مصلحتكم حقا أن تدفعوا الحكومة لمطاردة "مايكروسوفت"؟ إن صناعة أجهزة الكمبيوتر والبرمجيات تتطور بوتيرة أكثر تسارعا من أي إجراءات قضائية . فمن يدري كيف سيكون الحال في قطاعكم عندما تكون إجراءات المحكمة قد بلغت نهاياتها ؟ إن الطاقة البشرية والمال كان الأولى أن يستغلا لتطوير المنتجات أولا وقبل كل شيء .
ليس بالإمكان التعبير عن مذهب مدرسة شيكاغو بطريقة أكثر بلاغة من ذلك : إن التطور التقني لا يمكن التنبؤ به وهو قادر بالتأكيد على تغيير ظروف السوق بسرعة بالغة . ولهذا فلا معنى لتدخل الدولة في عملية تنظيم للسوق . وليس من المجدي بأي حال من الأحوال التصدي لشركة ناجحة لأن سطوتها قد تتلاشى غدا أو بعد غد.
بعد أن تمكنت "مايكروسوفت"، مبدئيا، من تحقيق الانتصار في معركتها داخل الولايات المتحدة، شرعت الآن في مناكفة حماة المنافسة في اللجنة الأوروبية، وتدور المعركة هذه المرة أيضا حول الهيمنة على السوق، التي تحاول "مايكروسوفت" توسيعها لتشمل أسواق أخرى للبرمجيات من خلال نظام التشغيل ويندوز العائد لها. ولهذا فإن المطلوب من شركة مايكروسوفت أن تبقي بعض المعلومات حول ويندوز متاحة لكي يصبح المنافسون في وضع يمكنهم من تطوير برمجيات لشبكات يمكن ربط الحواسيب العاملة بنظام ويندوز عليها .
إن هذا النزاع مستمر منذ سنوات ولا يبدو أن ثمة في الأفق نهاية قريبة له . ففي آذار (مارس) الماضي فرضت اللجنة الأوروبية على مايكروسوفت غرامات جديدة لم يجر الالتزام بها من وجهة نظر بروكسل، حتى اليوم، بسبب المماطلة التي تبديها "مايكروسوفت" باستمرار. ومع أنه سبق لـ "مايكروسوفت" أن دفعت غرامة بلغت نحو 500 مليون يورو بسبب إساءة استخدام هيمنتها على السوق إلا أنها على خلاف الممارسة السابقة رفعت هذه المرة قضية أمام محكمة العدل الأوروبية بشأن الغرامات التي فرضتها بروكسل، ولم يصدر حكم المحكمة في هذه القضية بعد. وفي الحقيقة أنه يصعب، حتى على الخبراء، التمييز بين ما هو حق وما هو باطل في هذه القضية. ولكن مع ذلك فثمة حقيقة لا مراء فيها وهي أن تحقيق اللجنة الأوروبية للانتصار على "مايكروسوفت" ليس بالأمر المؤكد.