هل ينحي البنك المركزي قواعد الدورة الاقتصادية جانبا؟
يبدو أن الحديث في موضوع " التضخم أو النمو " حديث لا ينتهي في أسواق المال الدولية. فعلي مدار شهور و ليس أسابيع لا يكاد هذا الموضوع يخفت قليلا حتى يعاود التوهج من جديد بقوة أكبر متقدما على كل الموضوعات الأخرى. وقد اكتسب هذا الموضوع زخما جديدا في الأيام القليلة الماضية عندما أقدم بعض قدامى الخبراء على التنبؤ بأن بنك الاحتياط الفيدرالي الأمريكي سيرفع إلى 6 في المائة العائد على الأرصدة الاتحادية اليومية من مستواه الحالي البالغ 5 في المائة فقط. أما التبرير المعياري لذلك فهو أنه ضروري لمحاربة الارتفاع العام في الأسعار ولاستباق الاتجاهات التضخمية. ولكن ثمة وجهة نظر أخرى مختلفة مفادها أن على بنك الاحتياط الفيدرالي الأمريكي، أن يثبت مصداقيته تحت رئيسه الجديد بيرنانكيه. وقد أضحى ذلك ضروريا أكثر من أي وقت مضى بعد أن حذر العديد من كبار المسؤولين في بنك الاحتياط الفدرالي الأمريكي نفسه كما في البنوك المركزية الإقليمية من أخطار موجة الغلاء الحالية خلال الأسابيع الماضية، مما يشكل تحديا، أولا وقبل كل شيء، للأسواق التي تتعامل بالفائدة التي تود أن تختبر صلابة بنك الاحتياط الفيدرالي الأمريكي في قضية التضخم. ويرى بعض الاقتصاديين وبعض واضعي استراتيجيات الاستثمار أن المسألة بالنسبة للأسواق لا تتعلق بالغلاء في حد ذاته بقدر ما تتعلق بما إذا كان بنك الاحتياط الفيدرالي الأمريكي سيخاطر حقا بتعريض الدورة الاقتصادية للهبوط فقط من أجل المحافظة على سمعته.
إن المنتقدين هذا الموقف الافتراضي يشيرون دائما إلى أن ظهور آثار ارتفاع أسعار الفائدة الأساسية على الاقتصاد الحقيقي سيستغرق ما بين ثلاثة وثمانية عشر شهرا، ويذكر في هذا الخصوص أن سلسلة الزيادات الأخيرة في أسعار الفائدة ظهرت آثارها خلال المدى الزمني القصير، ولكن يبدو من الآثار المؤجلة أن بنك الاحتياط الفيدرالي الأمريكي لم يدرك حتى الآن كيف سيتحمل الاقتصاد الأمريكي زيادة أسعار الفائدة في نهاية آذار (مارس) أي الزيادة قبل الأخيرة. ولعل من أبرز المنتقدين للسياسة النقدية التي ينتهجها بنك الاحتياط الفيدرالي الأمريكي ألبرت ادواردز، الاستراتيجي الأول لبنك دريزدنر كلاينفورت فاسرشتاين وديفيد روزنبيرج الاقتصادي الأول لشؤون أمريكا الشمالية في بنك ميريل لينش، وكذلك مؤسسة لومبارد ستريت ريسيرتش اللندنية المستقلة المتخصصة في التحليلات والبحوث الاقتصادية. وجميع هِؤلاء لا يوافقون على مقولة أخطار التضخم وإنما يتوقعون أكثر تراجعا واضحا في أداء الاقتصاد الأمريكي خلال النصف الثاني من العام الحالي ويقولون بالتالي إن مقولة التضخم ستختفي لوحدها. كما أن روزنبيرج ينبه بشكل خاص إلى آثار الزيادات في أسعار الفائدة على سوق العقارات الأمريكية، بل إنه يتحدث عن قرب وقوع انفجار داخلي في هذه السوق.
إن هذا المنطق لا يكشف عن مدى خطورته إلا عندما يدرك المرء كيف أن الفوائد المرتفعة تقلص الفرص المتاحة لا لشراء البيوت بمساعدة القروض فقط وإنما كيف أن الفوائد المرتفعة ستجعل من الصعب خدمة القروض التي تم بواسطتها شراء البيوت حتى الآن. ومن هنا تزايدت في الآونة الأخيرة عمليات بيع البيوت لأسباب اضطرارية وهو ما يشكل أداة ضاغطة على أسعار البيوت. ويرى بعض الخبراء أن توالي تأثيرات هذه العملية يمكن تلمسه في بعض المناطق المهمة، وفي الوقت الذي تنخفض فيه أسعار البيوت تبقى الديون على ما هي عليه. أما إذا ترافق تباطؤ الانتعاش الاقتصادي مع تزايد انتشار البطالة وتراجع مستوى الأجور والرواتب فسينزلق المستهلكون الأمريكيون، المثقلون بالديون، إلى منزلقات وصعوبات خطيرة. ولأن الاستهلاك يشكل ما يقارب ثلثي النشاط الاقتصادي الكلي في أمريكا يصبح من السهل تصور ماهية العوامل التي تهدد الانتعاش الاقتصادي، فإذا أضفنا لذلك حقيقة أن أمريكا تمثل وحدها أكثر من 20 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي العالمي وأنها تستورد أكثر مما تصدر، يتضح لناظرينا ما يعنيه تراجع دورة الانتعاش الاقتصادي هناك بالنسبة لبقية العالم.
وعلى هذه الخلفية التي تكررت الإشارة إليها من قبل العديد من الخبراء صرح ألبرت ادواردز من دي كي دبليو بأن مرحلة الضعف الحالية التي تمر بها سندات الدين الحكومية، من الدرجة الأولى، تتيح فرصة استراتيجية للشراء. وبطريقة غير مباشرة اتفق مع هذه المقولة ديفيد روزنبيرج في استشرافه للمستقبل حيث توقع أن تنخفض العائدات على سندات الخزينة العامة لعشر سنوات في واشنطن حتى نهاية عام 2007، وبصورة تدريجية إلى 4.4 في المائة من مستواها الحالي البالغ 5.14 في المائة.