كلما قل المعروض النقدي في الأسواق زادت قيمة الأموال
"كلما قلت النقود زادت قيمتها "، على هدي هذه المقولة سيعمل حماة العملة من الأمريكيين تحت قيادة بن بيرنانكيه خلال الأسابيع المقبلة من أجل مزيد من التشدد في سياساتهم النقدية. فمع قرار رفع سعر الفائدة للمرة السابعة عشرة من سلسلة متصلة الحلقات من قرارات رفع أسعار الفائدة منذ صيف عام 2004 سيتقلص حجم النقد المعروض في أكبر اقتصاد في العالم. إن سعر الفائدة المستهدف الذي يسعى مجلس السياسة النقدية التابع للبنك المركزي الأمريكي للتأثير بواسطته على مستوى سعر الفائدة في أسواق النقد سيزاد مرة أخرى بربع نقطة مئوية ليصبح عندها 25ر5 في المائة . إن مثل هذه الخطوة تبدو مبررة بل وضرورية للحد من الضغوط التضخمية التي لا تزال قائمة. ومع أن ثمة دلائل متزايدة على تباطؤ النمو الاقتصادي، لكن مخاطر ارتفاع الأسعار بسرعة هي حاليا أكثر جسامة من أخطار تباطؤ جدي في الدورة الاقتصادية.
غير أن خط سير منحنى الفائدة الأساسية المنتظم لا ينبغي أن يحرف الأنظار عن حقيقة أن السياسة النقدية الأمريكية قد ابتدأت منذ بضعة أشهر في انتهاج خط سير مختلف: فطابع القرارات طوال سنوات الذي كان يساعد المتعاملين في أسواق المال، بصورة مسبقة، على معرفة المسار الذي ستسلكه أسعار الفائدة الأساسية قد أشرف على النهاية في ربيع هذا العام، حيث أصبح بنك الاحتياط الفيدرالي الأمريكي يسير وفقا لمدى الرؤية ويتخذ قراراته في ضوء تطورات الأسعار والدورة الاقتصادية التي تحدث في الفترة الفاصلة ما بين اجتماعات المجلس.. ولأسباب تبدو معقولة تحدث بن بيرنانكيه عن احتمال أخذ فترة استراحة في جولة ارتفاعات أسعار الفائدة، وقد تكون فترة الاستراحة هذه ذات فائدة لمتابعة آثار السياسة النقدية المتشددة على تطور الأسعار في الأجل الطويل. أما أن الشهر الحالي لم يشهد بعد مثل هذا التطور فسببه القلق المشروع لبنك الاحتياط الفيدرالي الأمريكي من انخفاض آخر بنسبة أكبر في قيمة العملة الأمريكية. حيث بلغت نسبة التضخم في أسعار المستهلك 2.4 في المائة، وهي نسبة لا يمكن، بحال من الأحوال، التوفيق بينها وبين استقرار الأسعار.
بعد خمسة أشهر من التغيير في قيادة أقوى بنك مركزي في العالم بدا واضحا التأثير الكبير للرئيس الجديد في توجيه السياسة النقدية الفعلية. صحيح أن سعر الفائدة الأساسي قد وصل تحت رئاسة ألان جرينسبان أيضا إلى مستوى مواز لمستواه الحالي، غير أن بيرنانكيه قد ابتدأ في جعل السياسة النقدية الأمريكية أكثر صدقية، وفي النهاية ، أيضا أكثر نجاحا . إن الإعلان بأن أسعار الفائدة سيجري تحديدها من الآن فصاعدا حسب الحاجة لا يجوز أن يساء فهمه فينظر إليه وكأنه دليل على سياسة قصيرة النفس أو أنه لا يأخذ بالجدية اللازمة ضرورة المساهمة في الحفاظ على استقرار الأسعار، وهو الأمر الذي كان جرينسبان حريصا عليه، بل على العكس من ذلك : حيث أعلن بيرنانكيه عن نهاية مرحلة الخطوات الميكانيكية في تقرير أسعار الفائدة مغتنما الفرصة لجذب أنظار أعضاء المجلس نحو آفاق أرحب. إن أرقام التضخم الحقيقية ليست هي العامل الحاسم بالنسبة لأية سياسة نقدية يعتمد عليها، لأنها في النهاية ليست سوى نتيجة لقرارات في مجال سياسة الفوائد اتخذت منذ فترة زمنية بعيدة. وقد سبق للسيد جرينسبان أن وقع في هذا الخطأ عددا من المرات. إن القرار بالنسبة لمستوى أسعار الفائدة الأساسية يجب أن تحكمه التوقعات المتوسطة الأجل للاتجاهات التضخمية، وهي ما يمكن لمحافظي البنوك المركزية أن يستنتجوها من العديد من المؤشرات الاقتصادية. وخيرا فعل بنك الاحتياط الفيدرالي الأمريكي بتبنيه أخيرا مثل هذا النهج.
من الواضح أن المتعاملين في الأسواق المالية يواجهون في هذه الأثناء صعوبات جمة في محاولاتهم التكيف مع أسلوب بيرنانكيه، فهم يفتقدون ما اعتادوا عليه من مقدمات لقرارات توجيهية بشأن أسعار الفائدة، وهم في الوقت نفسه غير مطمئنين نوعا ما بسبب بعض الأخطاء التي وقع فيها حامي حمى العملة الأميركية في محاولاته الدائبة لمواجهة التحديات ذات الصلة بالسياسة النقدية. غير أن الشك في إرادة بيرنانكيه بل وفي قدراته على إبقاء التضخم تحت السيطرة هو شك لا مبرر له، فنظرة علمية سريعة إلى أعماله تظهر ذلك بوضوح: حيث إن بيرنانكيه تمكن خلال العديد من السنوات من تطوير سياسة نقدية ناجحة تستهدف المحافظة على الاستقرار استنادا إلى قاعدة نظرية سليمة. أما الآن، وبصفته رئيس بنك الاحتياط الفيدرالي الأمريكي، فهو يقوم ببعض الخطوات الحذرة لوضع السياسة النقدية الأمريكية في إطار من القواعد والنظم، وفي نهاية المطاف يفترض تحديد نسبة التضخم المستهدف التي يسترشد بها بنك الاحتياط الفدرالي في تنفيذ سياساته النقدية. وبالسير على خطى بنوك مركزية ناجحة، سيحدد مجلس بنك الاحتياط الفيدرالي بداية نسبة التضخم التي يسعى لها في المدى المتوسط. وقد أوضح بيرنانكيه بجلاء أن المستهدف هو نسبة تضخم في أسعار المستهلك تراوح بين 1 و 2 في المائة. وفي النهاية لا بد للمدافع عن العملة الأمريكية من أن يقبل ببعض الانحرافات ما بين نسبة التضخم المتوقعة ونسبة التضخم المستهدفة أثناء اتخاذ القرارات في مجال السياسة النقدية.
لقد قاوم جرينسبان، حتى النهاية، مثل هذه الصياغة للسياسة النقدية. حيث كان يقول: إن العلاقات الاقتصادية المتشابكة أكثر تعقيدا من أن تحشر في نموذج رياضي لتستمد منه بعد ذلك القرارات التنفيذية. ولكن لا مستوى التضخم المستهدف مباشرة ولا استراتيجية الأعمدة التي يتبناها البنك المركزي الأوروبي تصلح لأن تكون قاعدة يجري اتباعها دون تردد في تحديد أسعار الفائدة، وان كانت تقدم للمتعاملين في الأسواق وللرأي العام إرشادات مهمة حول هدف السياسة النقدية والأدوات المستخدمة لتحقيق هذا الهدف. كما أن الاسترشاد بقاعدة ما خير من الوقوع تحت سحر كلمات "مايسترو" ومحاولاته المحمومة لإظهار الدورة الاقتصادية على غير ما هي عليه حقيقة. وقد أحسن بيرنانكيه التعبير عندما قال: إن السياسة النقدية تساهم أفضل مساهمة في النمو وفي التشغيل، من حيث إنها تحافظ على استقرار الأسعار وإبقاء توقعات التضخم ضمن مستوى منخفض.