انهيارات المباني .. إلى متى؟

ماذا بعد سقوط فندق مكة أو حريق المدرسة؟ السيناريوهات متعددة والنتيجة واحدة: موت تحت الأنقاض! ومع كل كارثة انهيار تعقد اللجان وتظهر التصريحات التي لا تتحدث عن الضوابط والرقابة والمتابعة والقوانين التي يجب احترامها، ثم تهدأ العاصفة انتظارا لكارثة جديدة.
إن خسارتنا ليست في أكوام الأسمنت والحديد، بل هي أرواح هؤلاء الشهداء التي ستبقى في ذمتنا إلى الأبد. والإثم وتأنيب الضمير لمن لم يحاول أن يتدارك وقوع تلك الكوارث أو تكرار وقوعها، ما يحتم علينا إيجاد هيئة أو لجان موزعة على بلديات المملكة للقيام بحصر المباني الحالية الآيلة للسقوط وتدارك ذلك، مع الاهتمام بتوعية من يبنون حالياً إلى الالتزام والتقيد بكود البناء والتصاميم الإنشائية الدقيقة والإشراف والرقابة على التنفيذ، وبذلك يمكننا حماية الآلاف بل الملايين مستقبلاَ من كابوس وتهديد الانهيارات على رؤوسهم.
أسباب الانهيارات معروفة للجميع، ويعود أهمها إلى غياب والتأخر والتلكؤ في ظهور كود البناء من جهة. ومن جهة أخرى عدم وجود التصميم والإشراف والمراقبة على المباني. فكلنا نتجول في المدن ونرى بأعيننا المجردة الكثير من المباني العشوائية الآيلة للسقوط أو المتهدمة، والتي لا يزال يسكنها بعض المحتاجين.
وقد لا يكون من السهل وضع حل عام للمساكن الآيلة للسقوط، ولكن لا بد من عمل دراسة متأنية لكل نوع حفاظا على أرواح السكان المقيمين في هذه المساكن. ويكون ذلك عن طريق جهة إدارية استشارية لديها الخبرة الفنية تقتصر على معاينة جميع العقارات التابعة لكل بلدية من حيث صلاحية العقار أو حاجته إلى ترميم أو إزالته، سواء كان بإزالة بعض الأدوار أو إزالة كلية، وذلك يكون على أيدي مهندسين فنيين متخصصين لإعطاء رأيهم الفني والاستشاري لحالة العقار، يصدر على أساسه أي قرار سواء بالترميم أو الإزالة وفقا لحالة العقار، والذي لا بد أن ينفذ سريعا لمصلحة سكانه.
وهناك طرق كثيرة للتأكد من سلامة المبنى وهي غير مكلفة. وتشمل أخذ عينات أو جسات من الأعمدة والقواعد والأسقف وفحصها، واستعمال مطرقة سميث أو شنايدر وغيرها من الطرق المألوفة لدى المكاتب الهندسية المتخصصة.
ويرتبط موضوع الانهيارات بنظرية العمر الافتراضي للمباني، والذي من الصعب معرفته لعدة أسباب تتعلق بمدى جودة التصميم ودقة تفاصيله الإنشائية والإشراف والرقابة وفق كود البناء، والاختيار الجيد للمواد وطريقة حفظها في الموقع ثم طريقة الخلط والتنفيذ، جودة المصنعية والأيدي المهنية للعمالة، توافر الصيانة الدورية، والاستعمال المناسب لنوع المبنى.
ولا يوجد عمر افتراضي معروف للمباني، فقد قام العديد من الدراسات لتحديد ذلك، ومنها دراسة تمت في الولايات المتحدة بعد أن تم هدم عينة من 250 وحدة سكنية ودراسة العمر الافتراضي لها، حيث خرجت الدراسة بأن العمر يعتمد على نوع المبنى واستعماله، سواء كان سكنيا أو مكتبيا أو تجاريا أو صناعيا، وكذلك نوعية المواد الإنشائية سواء خرسانة مسلحة أو حديدية أو خشبية، ووجدت الدراسة أن العمر الزمني ما بين 25 إلى 50 سنة، وفي دراسة أمريكية أخرى وجد المعدل 42 سنة.
والتجربة الأخرى كانت في بريطانيا لـ 125 مبنى، وخرجت بنتيجة أن العمر الافتراضي يكون ما بين 20 إلى 55 سنة، وبذلك فإن المعدل هو في حدود 35 سنة. وتبع ذلك دراسات في اليابان بمعدل 23 إلى 41 سنة. ولكن هذه الدراسات هي للمعدل العام، فقد يحدث أن تعيش بعض المباني إذا أحسنت صيانتها وكانت مبنية على الأسس التي سبق ذكرها فإنها قد تعيش لأكثر من 100 عام، ويستثنى من ذلك المباني الأثرية التي كانت مبنية من كتل من الحجارة الصلبة التي قد تعيش مئات السنين.
ولعل ما يهمنا هنا هو ما خرجت به تلك التجارب والدراسات من أسباب انهيار المباني، حيث توضح المواصفات الأمريكية والبريطانية أن أسباب انهيار المباني بالرغم من وجود كود للبناء والإشراف والرقابة تعود إلى:
1) سوء التصميم والتفاصيل الإنشائية.
2) عدم الاختيار الجيد لمواد البناء وللغرض الذي يبنى لأجله.
3) جودة وبقاء المواد لفترة طويلة.
4) الظروف السيئة لتخزين المواد وطريقة الخلط في الموقع فالأسمنت يفقد صلاحيته بعد شهرين من إنتاجه مثلاَ، وتقل تلك الفترة مع تعرضه للحرارة. وكذلك الحال للحديد وتعرضه للصدأ في المناطق الرطبة.
5) سوء المصنعية ومهنية العمال.
6) نقص الصيانة الدورية للمباني.
7) الاستعمال غير المناسب للمبنى.
وتختلف الأسباب من مجتمع إلى آخر حسب سلوكيات المجتمع والظروف البيئية، ومدى تهاونهم في الاهتمام بالتقيد بالمواصفات. ولذلك فإننا في المملكة نفتقد كود البناء الملزم لأصحاب المباني والمقاولين والمهندسين. وأهم ما يتم التهاون فيه لدينا هو:
* عدم الاهتمام بفحص التربة وخاصة للمباني العالية، حيث توجد مناطق فيها تربة انتفاخية أو انهيارية وقوة تحملها لا تتعدى نصف كم/سم2، بينما المتعارف عليه في مكاتبنا الهندسية أن التصميم يتم على أساس 2 كجم/سم2، وبذلك لا تتحمل التربة أساسات المبنى فينهار.
* التشققات والشروخ الواضحة، وهي نوعان: تشققات في اللياسة والبلك، وتكون صغيرة جداَ تكاد لا تراها العين المجردة، وهي تشققات غير خطرة، بينما هناك تشققات وشروخ واضحة وتكون في الأعمدة والكمرات الخرسانية وهي التي تسبب الانهيار. ويمكن فحصها بسهولة.
* وجود الصدأ في الحديد قبل البناء وهو نوعان: بودرة خفيفة على الأسياخ ويتم تنظيفها بفرشة حديدية وهي ليست خطرة. ولكن الخطر عندما تكون على شكل قشور وصفائح وبسماكة واضحة وتلك التي تسبب الانهيار والفصل بين الخرسانة والحديد وخاصة في المناطق الرطبة.
* ملوحة المياه المستعملة لخلط الخرسانة تساعد على تأكسد الحديد وتعرضه للصدأ.
* الظروف الطبيعية، الكيماوية، التصميمية، والتنفيذية التي تتعلق بهندسة التربة والتسليح والظروف الجوية في المناطق الساحلية، لذلك فإن العزل يلعب دورا كبيراَ في إطالة عمر المبنى، وخاصة عزل الأساسات واستعمال الأسمنت المقاوم للأملاح لكل ما هو تحت التربة، تحسباَ لارتفاع منسوب المياه الجوفية، حيث إن التربة الانتفاخية أو الملحية تساعد على سرعة انهيار المبنى.
* تحميل المبنى أكثر من طاقته والأحمال التي صمم من أجلها، مثل مشكلة قيام المطوفين باستغلال الحجاج ورصهم في غرفة واحدة، أو ما يقوم به بعض السكان من وضع أحمال رأسية مرتكزة على جزء من بلاطة السقف مثل الخزائن الحديدية أو الأرفف الرأسية المحملة بالملفات الثقيلة، فالمباني السكنية لم تصمم إنشائياَ لهذه الأحمال، ما يؤدي إلى الانهيار السريع.
* عدم الاهتمام بوسائل السلامة وإطفاء الحريق، وهي أرخص ما يمكن توفيره بمبالغ زهيدة، ولكنها تحمى الأرواح والمبنى.
* عدم استعمال طبقة "فوم" عازلة ومانعة للحريق للمباني الحديدية، ومنها ما يؤخر الانهيار لساعات ويمكن الناس من الهروب قبل انهيار المبنى.
* عدم اختيار مقاولين مؤهلين ومهندسين أكفاء للإشراف على التنفيذ ما يؤدي إلى سوء التنفيذ.
* عدم الاهتمام بوضع نظام مانع الصواعق والتأريض، وهي غير مكلفة وتحمى من الصواعق لا قدر الله، أو التماس الكهربائي والحريق.
ويبقى بعد ذلك الأسباب التي تعود إلى قدرة الله، وهي الأمطار، السيول الجارفة، العواصف، والزلازل، وهي مع أنها بمشيئة الله إلا أنه أمرنا بالعمل والتسبب لذلك، فإنه من الأفضل عدم البناء في المواقع التي يعرف أنها مجاري سيول أو على خط (فولت) الزلازل، وهي مواقع أغلبها يعرفها الجيولوجيون.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي