بيوع التقسيط صور متعددة بين الوقوع في المحذور والإباحة
أكد الشيخ الدكتور سعد بن تركي الخثلان، عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام إن ما أباحه الله عز وجل أكثر بكثير مما حرم، والأصل في المعاملات الإباحة إلا ما ورد الدليل بمنعه، فإذا اختلف اثنان في معاملة بين تحريم وتحليل فالذي يطالَب بالدليل الذي يقول بالتحريم؛ لأن المبيح معه الأصل، ومع ذلك تجد أن الشريعة قد شددت في الربا تشديداً عظيماً حتى توعد الله آكل الربا بالحرب (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ( [البقرة:279]، " وقال في محاضرة عن بيوع التقسيط ألقاها أخيرا بجامع الدخيل بحي الشهداء وأوضح أن النبي صلى الله عليه وسلم لعن آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه" [رواه مسلم]، واللعن لا يكون إلا على كبيرة، ومنع النبي صلى الله عليه وسلم الذرائع إلى الربا كما في أحاديث كثيرة، وبين فضيلته أن القرطبي ذكر أن رجلاً أتى الإمام مالك وقال له: إني رأيت رجلاً سكران يقفز يريد أن يصطاد القمر، فقلت: امرأتي طالق إن كان شيء يدخل جوف ابن آدم أخبث من الخمر، فأجله الإمام ثلاثة أيام ثم قال له: امرأتك طالق، قال: لِمَ؟ قال: إني استعرضت القرآن آية آية فلم أجد شيئاً يدخل جوف ابن آدم شراً من الربا .
وقال تعالى: (وَأَخْذِهِمُ الرِّبا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ( [النساء: من الآية161]، واعلم أن الفرق بين الحلال والحرام فرق دقيق، لهذا يشتبه على بعض الناس، أتي النبي صلى الله عليه وسلم بتمر من تمر خيبر، فقال: "أكل تمر خيبر هكذا" فقالوا له: يا رسول الله إنا نشتري الصاعين من هذا بصاع من غيره، فقال: "أوه.. عين الربا" ثم أرشد إلى المخرج فقال: "ولكن بع الجميع بالدرهم ثم اشتر بالدراهم اجنبياً" أي بع الرديء بالدراهم ثم اشتر بالدراهم تمراً جديداً.
وأشار فضيلته إلى أنه ما يرد يقول قائل: إنه لا فرق أو إنه من التحايل على الربا، وهذا ليس صحيحاً، بل هو دليل دقة الفرق بين الحلال والحرام، ونقل البهوتي عن أحد شيوخه أنه أدرك في المغرب المحتسب يمر بالأسواق فيتفق على كل دكان فيسأله عن الربا ووجوه البيوع، فإن أجاب أقره، وإن لم يعرف أقامه من الدكان وقال: (لا يمكنك أن تقعد في سوق المسلمين تطعم الربا وتطعم الناس ما لا يجوز).
(بيوع التقسيط)
وانتقل إلى الحديث عن (بيوع التقسيط):فقال إن بيوع التقسيط تعني : التأجيل
وصورته : أن يبيع رجل بضاعته أو سلعة إلى أجل ويزيد في سعر البضاعة مقابل الأجل.
وهذه أبرز صوره وهو التقسيط المباشر، وحكم الجوازية قول عامة أهل العلم، حكى الحافظ ابن حجر الإجماع على جوازها.
ومن أدلة الجواز: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً فَاكْتُبُوهُ([البقرة: من الآية282]، وحديث: "من أسلف في شيء فليسلف في كل معلوم أو وزن معلوم إلى أجل معلوم"، وليس فيها اشتراط أن يكون بأجل حاضر، وحديث شراء البعير بالبعيرين والثلاثة إلى إبل الصدقة، وكذلك حديث قصة بريرة حيث اشترت نفسها بتسع أواق كل عام بأوقية، وأقره النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا من بيوع التقسيط، وشراء النبي صلى الله عليه وسلم من اليهودي بالآجل؛ ولأن أمور البيع لا تقبل إلا هذا وفيه نفع للبائع والمشتري ومصلحة للطرفين والشريعة لا تأتي بمنع ما كان في منفعة وليس فيه ضرر.
وينبغي لمن يبيع بيع التقسيط ألا يزيد في الربح ويضر بالمسلمين، ورد في سنن أبي داود النهي عن بيع المضطر، ولمن كان ضعيفاً إلا أن قواعد الشرعية تدل عليه.
من صوره
وأبان أن من صوره: بيع المرابحة للآمر بالشراء:
ومعنى المرابحة: البيع بأزيد من رأس المال بربح معلوم للمتعاقدين، وهذا معناها عند الفقهاء المتقدمين، وهي من بيوع الأمانة الثلاثة: المرابحة، الوضعية، والتولية.
وليس هو المراد عند البنوك اليوم، بل الواقع له صورتان:
* أن يشتري البنك السلعة للعميل الآمر ثم يقسط العميل قيمتها على البنك، ويتفق على أنه يشتريها للعميل، ويشترط شراء العميل، وهذا الاتفاق عقد، وفيه من المحاذير أن البنك يبيع على العميل السيارة قبل شرائها، وقد ورد النهي عن بيع المرء مالا يملك.
* أن يعد العميل البنك أنه سيشتريها دون عقد على الوعد ثم يشتري البنك.
* أن يكون الاتفاق بين الواعد بالشراء (العميل) والموعود بالشراء منه (البنك) مجرد وعد غير ملزم بالبيع ووعد بالشراء دون عقد والتزام بالبيع لا كتابة ولا مشاهدة حتى يمتلك ويقبض الموعود بالشراء السلعة، وعليه فكل من الطرفين له الحرية في إتمام العملة أو رفضها..
* ألا يقع العقد للمبيع إلا بعد تملك الموعود بالشراء للسلعة ويقبضها.
فحينئذٍ يجوز، ومن أفتى بالجواز سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز ـ رحمه الله ـ
الفرق بين الفائدة الربوية وبين الزيادة في التقسيط
وأوضح أن الفرق بين الفائدة الربوية وبين الزيادة في التقسيط أن ربح التجارة وهي الزيادة في التقسيط محله مباح وهو بيع سلعة مباحة، فللبائع أن يزيد في سعر السلعة، وهو حر في هذه الزيادة، والمشتري ليس ملزما بالشراء ما دام لا حكر ولا غبن في ذلك، أما الفائدة الربوية فمحلها الدين، سواءً كان الدين قرضاً أو غيره، فالزيادة في هذا الدين مقابل زيادة الأجل هو ربا الجاهلية، وهذا فرق ظاهر.
بيع العينة والتورق في بيوع التقسيط
وانتقل إلى الحديث عن بيع العينة والتورق في بيوع التقسيط فقال إن بيع العينة: بيع سلعة بثمن مؤجل ثم شراؤها بأقل منها نقداً، وهي نقد بنقد أكثر منه دخلت بينهما سلعة للتحايل، والحديث فيه رواه أبو داود وهو حسن صحيح بمجموع طرقه، قال صلى الله عليه وسلم: "إذا تبايعتم بالعينة وأخذتم بأذناب البقر وتركتم الجهاد سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم" [رواه أحمد وأبو داود]، وإذا كان بيع التقسيط يجري على هذه الصورة فهو محرم.
أما التورق فهي عينة بين ثلاثة أطراف، وهي: أن يبيع سلعة لآخر بثمن مؤجل ثم يبيعها المشتري على ثالث بثمن حاضر.
وهي جائزة بهذه الصورة في قول جمهور أهل العلم؛ لكن توسعت فيه البنوك توسعاً كبيراً حتى خرج عن الصورة المباحة، وصار ما يسمى بالتورق المنظم.
وصورته: شراء سلعة من البنك دون القيام من مجلس العقد بل أوراق ثم توكيل بالبنك في بيعها، في ساعات ينزل في حساب العميل السيولة المالية، وهذا التركيب يخرجها عما أراد الفقهاء من التورق المباح، بل هي حيلة ظاهرة على الربا، فبدل ما يدفع البنك 100 ألف بـ 200 ألف مؤجلة، يتعامل بهذه الصورة، وصدر قرار من مجلس مجمع الفقه الإسلامي في تحريم هذه الصورة بعينها، والمحاذير فيه متعددة منها:
1- الشبه بالعينة، سواءً كان الالتزام بالتوكيل صراحة أو بالعرف.
2- الإخلال بشروط القبض الشرعي.
3- إنها قائمة على الزيادة الربوية في التمويل، وهو غير التورق الحقيقي.
تصحيح المعاملة
وقال فضيلته إن تصحيح المعاملة بأن يبيع البنك السلعة للعميل ويقوم العميل ببيعها لطرف ثالث ولا يوكله في البيع.
والبنوك تعلم أن العميل لا يريد السلعة، وإذا ألح عليها عميل بالقبض فإنها تصرح بأنه ملزم بالتوكيل، وكما قال بعض السلف: (يلعبون على الله تعالى كما يلعبون على الصبيان، لو أتوا الأمر على وجهه لكان أخف).
أبرز من أفتى بجواز هذه الصورة أنكر أن تكون صورة المعاملة كما هو في البنوك، وأن هذه الصورة ليست تورقاً، وبين أن التورق الجائز هو ما سيق التورق الحقيقي، وكل من يعول من البنوك على فتواه فعليها أن تراجع في التطبيق ما أفتى به هذا العالم الجليل.
حكم الشرط الجزائي في الديون
وبين أن حكم الشرط الجزائي في الديون فيه نصوص عن السلف، وهذه التسمية من المعاصرين، وعرفوه بـ: اتفاق بين متعاقدين على تقدير التعويض مقابل الإخلال من أحد الطرفين في الوعد الذي عقد على تنفيذه (تعريف تقريبي) وهو جائز في غير الديون، وهي الغرامات التي تحسب على التأخير.
وإذا كان الشرط الجزائي كثيراً من باب التهديد فإنه عند التنفيذ يرجع إلى العدل والإنصاف بواسطة القاضي، وهذا الجواز مما أفتت به اللجنة الدائمة ومجمع الفقه الإسلامي.
وممارسة الشرط الجزائي في بيوع التقسيط لا يجوز؛ لأنه من الديون.
صورته: أبيعك هذه السيارة بـ 60 ألفا، كل سنة 10 آلاف ر. س. فإذا تأخرت شهراً أزيد عليك مقابل كل قسط 2.000ر. س. مثلاً، ومثله فواتير الكهرباء والماء والهاتف، لا يجوز أن يزاد عليها غرامة تأخير سداد، وإن كان ولله الحمد غير موجود في بلادنا.
مقابل تأخر سداد الدين
وهل يجوز مقابل تأخر سداد الدين على الدين المماطل الزيادة المذكورة؟
وقال فضيلته أخذ المقابل عند تأخر سداد الدين على المماطل فإن الزيادة المذكورة أفتت بعض الهيئات الشرعية بالجواز في أخذها؛ ولكن قول جماهير العلماء من السلف والخلف أنه لا يجوز، وكتبت فيها بحثاً منشوراً.
دليل ذلك: "لي الواجد يحل عرضه وعقوبته" ولم يفسر أحد من الفقهاء العقوبة بأنها التعويض المالي، بل هو الحبس والجلد، وبعض البنوك تمارس هذه الطريقة على وجه لا فرق بينه وبين الفوائد الربوية في التطبيق.
مسائل مختلفة
وذكر فضيلته عددا من المسائل منها إذا اشترط الدائن على المدين حلول بقية الأقساط بتأخر سداد قسط من الأقساط فهذا شرط جائز، وقد صدر في جوازه قرار من مجلس مجمع الفقه الإسلامي، وأشار إلى الجواز كل من ابن القيم في إعلام الموقعين وابن عابدين في حاشيته.
مسألة أخرى
المصالحة عن الدين المؤجل ببعض حالاً، وتسمى (ضع وتعجل) أن يطلب أو يشترط المدين أن ينقص من دينه إذا عجل السداد قبل حلول قسط الدين، في ذلك خلاف: والقول الصحيح الذي عليه أكثر المحققين الجواز، وممن اختاره ابن تيمية وابن القيم، وسماحة الشيخ ابن باز وابن عثيمين وغيرهم.
مسألة في اشتراط سداد الدين الأول في بيع التقسيط
وأما اشتراط سداد الدين الأول في بيع التقسيط، فقد عرضت على مجمع الفقه الإسلامي في دورته الأخيرة، وتسمى فسخ الدين بالدين أو قلب الدين، وقرار المجمع أن الممنوع شرعاً منه كل ما يفضي إلى زيادة الدين، ومن هذه الصورة، مثل: شراء المدين سلعة من الدائن بثمن مؤجل لسداد الدين الأول، وهي صورة منتشرة في أكثر البنوك.
وختم الشيخ المحاضرة بنصيحة ألا يلجأ الإنسان إلى الشراء بالتقسيط وترتيب ديون في ذمته إلا عند الحاجة الملحة؛ لأن الدين أمره عظيم، قال النبي صلى الله عليه وسلم: "يغفر للشهيد مع أول دفقة من دمه كل شيء إلا الدين".. أو كما قال صلى الله عليه وسلم، ولا يجوز اشتراط ذلك في أول العقد.
والرجل الذي طلب أن يتزوج المرأة الواهبة لنفسها، قال له النبي صلى الله عليه وسلم: التمس ولو خاتماً من حديد" وقال تعالى: (وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكَاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ([النور: من الآية33]، ولم يأمر الله ولا رسوله طال النكاح بالاستدانة، وكثير من الناس يستدين ليستثمر، والاستثمار مخاطرة، وآخرون يستدينون لشراء أمور كمالية لا حاجة إليها، وتذكروا لو وافت الإنسان المنية وفي ذمته هذا الدين.