"ما عَليْها دلُو"

المغالطة اللقطية لاعتبار القفزات المعيشية المتحسنة والمتغيِّرة إيجاباً لأكثر من نصف قرن مضى طفرة نعيشها وليست وفرة نحياها، إغفال واجب أنْ نعيه وواقع خاطئ نحياه ونعمة نحمد الله على دوامها، أمام التوقعات التوسعية المستقبلية لمشاريع البناء والتشييد المقدر إقامتها والمتوقع إنجازها حتى نهاية الربع الأول من القرن الذي يعيشه البعض متأثراً بعطائه ونفعاً بمكتسباته ويكتوي بنارها شريحة كبيرة من المواطنين تتخلَّف قدراتها عن الاستفادة من القفزة النقدية الكبيرة المتوقعة، نتيجة زيادة الدخول القومية والواردات الكمالية والدخول النفطية و"النقود القانونية" و"نقود الودائع" التي درَّجت ترسيخ كياناتها النقدية من داخل الاقتصاد الريعي لتصبح زيادة تسجيلية لإجمالي مظهري مكوناتها النقدية يُركنْ إليها، شاهداً لمتانة الاقتصاد الوطني، يعكس أصداؤه صياحاً صحافياً ودافعاً لزيادة الثقة، و"لصقة" فكرية لقبول ذبذبات ارتفاعات أسعار الأراضي والأسهم والأنشطة التقليدية المحدودة، ومنْظرة صحية اقتصادية، واعتبارها إضافة في الإنتاجية، متماثلة لتغيرات أقيامها السوقية وعوائدها، واعتبارها تصعيداً للثروة في أيادي مواطنين مغامرين في هذه النشاطات، بينما واقع الأمر ربما يترتب عليه تعقيد وتصعيب لمعيشية ضائقات الخارجين عن دائرة التعامل فيها، وإجمالي تحركاتها أقرب إلى "طاحونة الاقتصاد" التي تدور في المكان نفسه، لا تحقق للاقتصاد أكثر من مكاسب "أبو زيد"حتى يتهيأ المناخ المناسب للاستفادة من استثمارها بعد تغالي ارتفاع أثمانها وزيادة أسعار المواد والسلع المطلوبة لتشييدها، بتكلفة قسم منها يمثِّل إضافة لقيمة الإنتاج الوطني والباقي تصعيد في تكلفة الاستثمار، وقد يزيد على المخصص المعتمد ويتأخر التنفيذ وترتفع أسعار أقيام الأراضي وتزيد الأسعار عامة، وتنخفض القيمة الشرائية وتزيد معاناة أصحاب الدخول الثابتة والطبقات الدنيا وخاصة التي لا تعرف طريق "الدخل الموازي" وفوائد "تغييراته المعيشية". توفير المؤسساتية التنموية ضرورة حتمية لصيانة حفر الطرقات إلى معالجة الطائقات المعيشية.
المراجع الإحصائية المحلية والإقليمية المؤرخة للارتفاعات والانخفاضات في تكاليف المعيشة ومستوياتها خلال ربع القرن المنصرم قليلة والوصول إليها قد تعتريه المصاعب التي لا يتحملها الباحث، خاصة لعدم ثقته في تفهم التباين الكبير بين محتوياتها والواقع الذي عليه الاقتصاد الوطني من زيادة الأسعار. الزيادة السنوية في أسعار سلة الاحتياجات الاستهلاكية للعائلة قد تتعدى 10 في المائة، بينما الإحصاء الرسمي يرصد زيادة أقل من 1 في المائة، ويدعمه ما نشرته الصحف المحلية منذ سنين، نفى مسؤول سابق عن المال أن التضخُّم لم يجد طريقه للاقتصاد الوطني السعودي. وحديثا صرح وزير المال السعودي لوكالة رويترز في أبوظبي " كان النمو قويا خلال السنوات الماضية، ورغم ذلك فإن معدل التضخم منخفض لأقل من 1 في المائة " وأضاف القول " لا يوجد ضغط تضخمي حاليا، نحن نراقب الأسعار من كثب لتجنب أي ضغوط ". وأكَّدَ القول مواطن دخله محدود أنَّ الأسعار تتزايد بما يفوق استطاعته توفير احتياجاته الضرورية بعد تناقص قيمة دخوله النقدية. الإحصائيات الصادرة عن الأمم المتحدة، والجامعة توضِّح زيادة تفجُر الأسعار السنوية للسلع الاستهلاكية والخدمات مع بداية تصاعد الوفرة في عام 1975 وبمعدلات تزيد على 10 في المائة سنوياً. إضافة إلى معاناة تكاليف مستجدات الكماليات المعيشية، والزيادات في أسعارها وتعدُّد وتنوُّع المنتجات المستوردة التي تزيد من الثراء النقدي لأصحاب الأعمال والأراضي والأرصدة والأثرياء و"تقصم" ظهور أصحاب الدخول الثابتة والمعاشات ومحدودي الدخل لدرجة لا يشّذَبها الجدل الفلسفي الاقتصادي فيما إذا كانت الأسباب "تضخمية" أو داخلية أو أنها دولية مستوردة من الخارج ضمن تكوينات السلع والخدمات لتعدد الوسطاء واقتناص الفرص من المصدرين والمستوردين، ولا يفهم المواطن ردود فعل أسباب تقاعس الهيكلية النقدية والبنكية لمواجهة المتغيرات ومعالجة مسببات المخانق في الموانئ والطرق ولكثير من التعاملات المعوقة.
المشاريع التشييدية كبيرة ومتعددة ووسَّعت البنية التحتية وطوَّرت الخدمات الصحية والعلمية والاجتماعية على مدى ربع قرن مضى بعظمة فائقة، وتتواكب مع الاحتياجات الحالية بعد تطويرها وزيادتها واحتساب الاستهلاكات التي تعرَّضت لها، واستفاد كثيرون من تشييدها وتشغيلها معيشياً ونقدياً في الحاضرة والبادية، لكن تفاوت الاستفادة يتأثر بالقدرات التي "تجمَّعت" والفوارق المادية التي ظهرت، مما يترتب عليه مصاعب اجتماعية للوطن من الثراء الزائد للبعض والحاجة للظمآنين وهم يرون الماء يجري من حولهم. سلبيات الإنفاق الكبير توفر مجالاً للباحثين الاقتصاديين والاجتماعيين لتقييم تجربة الربع الأخير من القرن الماضي الإنمائية والاستثمارية وطرق ووسائل فك المخانق المستقبلية من الثراء النقدي وتكديس الأرصدة والأراضي.. إلخ، وتراجع كفاءة عطاء التنمية التكافلية لزيادة ثراء الأثرياء ونقصها عن كثيرين وتوفير المهنية والتقانة للعاطلين وزيادة تشغيل القدرات الوطنية المنصهرة مع القدرات والطاقات الأجنبية المؤهلة مطابقة لحقيقة احتياجات التنمية.
الأسبوع الماضي في معرض استضافة فضائية غربية، ضمن تغطية منتدى جدة الاقتصادي، أوضح مسؤول سعودي رفيع المستوى عن الاستثمار في المملكة اهتمام الاقتصاد السعودي باستقطاب الاستثمارات الأجنبية.. ونجاح مجهودات توجهاتهم تتمثل في الأعداد الكبيرة للشركات المتقدمة للاستثمار بمليارات الدولارات. مضيفة أن البرنامج أوضحت أنَّ المملكة ليست في حاجة لأموال يستثمرها أجانب بقدر ما هي بحاجة خبرات ومبتكرات وتقانة لصهر البطالة والعطالة. عشوائية الاستثمارات ليست طريق النماء ولا تحقق التنمية الاجتماعية الاقتصادية ولا توفر التكافلية الاقتصادية الاجتماعية للمواطن، بل ربما لا تجعل بعضهم فوق درجات.
الركض الذي نحن عليه، قياساً لما تتحفنا به الصحف المحلية مخيف، ويوفر القناعة بأننا لم نستفد من تجربة ربع قرن مضى في تفهم حجم الاستعدادات المطلوبة لمواجهة استيعاب الزيادة المتوقعة في الدخل القومي والاستفادة منها في برنامج تنموي اجتماعي اقتصادي عملي هادف أكثر من كونه شعارات توفر من خلالها للمواطن المشاركة في بريق طموحات ورغبات "بهللة" العمل التنموي والتطوير الاجتماعي والتحسين العلمي والإبداع والتقانة والانفتاح المبتعد عن انقفال المعلومة وحبس المعرفة، ومحاسبة المخطئ في إعطاء الأمور حقها، لأنَّ مقدرها أو عجز لتوفيرها. مثل هذه المنغصات يصعب أن تحدث إذا تساوت المعايير وتوازنت المستويات وتوحَّدت الوسائل والأساليب المبرمجة لتبان الجادة وإن طالت. فرحت مرة عندما تذكَّرت حكمة "رُبَّ ضارة نافعة" وحزنت مرة بحثا عن برامج التنمية الاقتصادية الاجتماعية السعودية. الضرر مساحته عادة واسعة والمنفعة مجالاتها ضيقة. لزيادة الإيضاح أُقدِّم أحدث مثلين تنموياُ. أولهما قرأت لوم مسؤول من جامعة الملك فهد لجريدة "الحياة" لنقص معلومات نشرتها الجريدة. وحزنت لضعف الثقافة التنموية الجامعية في بلدي، للدفاع الذي قدمه مسؤول الجامعة مبينا التعالي الذي عليه جامعته مقارنة بالجامعات السعودية الأخرى وكأنها جامعات من تمبكتو وفرحت لشرحه الوسائل والأساليب التي تجعل خريجيها يتفوقون على خريجي باقي جامعات الوطن. التنمية الشاملة توازي وتقارب التساوي بين جودة مجالات الإنفاق، مجالات الإنفاق مثل العينين في الرأس توفرها على جميع النشاطات المتماثلة بتكامل وتناغم مع الاحتياجات حتى تحقق أهدافها بنجاح. وللدكتور فهد أحمد عرب " "الاقتصادية" " إصدار 17/2/2006 استفسار وجيه فيما إذا " سيستمر تنفيذ اللوائح والأنظمة وتوفير الوظائف بين الجامعات متباينا، فتتميز جامعة وتهبط أخرى. وتتسع الفجوة بين القطاعات الإنتاجية أو الخدمية والجامعات بالاعتماد على الانتقائية الشخصية لا التخصصية المحققة للأهداف التنموية". والثانية فهمت أنَّ من أبرز الصفات المتوافرة لفكرة مشروع مدينة الملك عبد الله الصناعية تطويقه في منعزل عن المعطلات والمضايقات والسلبيات.. الخ التي يعيشها الاقتصاد السعودي. إنّ المشروع في حد ذاته يعود بالفائدة على الاقتصاد والربح الحلال لكل الناشطين فيه، وفائدته تكون أعظم على اقتصاد الوطن إذا استطاع أن يكون رأس الحربة لتوفير التنظيمات القاضية على تعطيل إنتاجية الأعمال، وتجسيد الالتزام الوطني دون قصرها على جامعة ولا حصرها في منطقة صناعية خارجة عن أرض واقع الوطن لما في هذا من استسلام انهزامي تنموي. تنمية الوطن للمواطن أبعد من توفير استثمارات نقدية للمعاملات السلعية الخدمية والتشييدية، تجنبا لزيادة الأسعار والتكاليف لنشاطات حولها متضررة ويصبح النفع التنموي خاصا والضرر عاما.
الأرقام المعلنة والمليارات المقدرة منذ بضعة سنوات للمشاريع المقترحة لربع القرن الأول من القرن الواحد والعشرين تسيل لعاب من على طريقة "هل امتلأت هل من مزيد"، دون ضمان تنمية اقتصادية اجتماعية متوازنة. مهم توفير الفكر والخطط التنفيذية للجوانب السلبية والإيجابية الاجتماعية الاقتصادية على الوطن والمواطن، خلاف ذلك فإنَّ كل تأخير في إنفاد هذه الاستثمارات فيه خير حتى لا يصبح اليوم مثل البارحة، ومخاطرة اتساع الفجوة بين الاحتياجات والمتوافرات، وتزيد العُقد لبعثرة الاختيارات. المخانق والمعطلات على الرغم من كثرتها وصعوبة توقعها بالكامل، فإنَّ أخطرها التغالي في زيادة تكاليف المعيشة وزيادة الأسعار اللذين يستطيع صاحب الأعمال المستثمر الخروج منهما بعد فترة قصيرة من الزمن. الوطن والمواطن ذو الدخل الثابت والفقير يتضرر وتتراكم عليه مصاعب المشاكل الاجتماعية.
الاختيارات الاستثمارية عشوائيا، في المدن الجامعية أو الصناعية أو خلافها لا تنتظم مع المخطط التنموي بعد وجوده، ولا تحقق الكفاية المعيشية لأصحاب الدخول المنخفضة والفقراء حسبما يوضحه تقرير البنك الدولي الصادر الأسبوع الماضي. ربما الاستثمارات الخلابة تخدم هدفا اقتصاديا أو صناعيا محددا، وتمثل حالة استثنائية مختارة. إبرازها إعلاميا لا بد أن ينحصر حجمه ضمن الغاية المؤسسة من أجله لتجنب أضرار جانبية مثل التضخم وارتفاعات في أسعار مصاحبة لتركيبته ومتولدة من ضخامته.
يرى مفكر اقتصادي عربي "أنَّ التضخم في المجتمع العربي لم يعد مجرَّد ظاهرة اقتصادية بحتة، بل أصبح ظاهرة اقتصادية اجتماعية وسياسية معقدة تؤثر في عناصر ومظاهر الحياة في المجتمع العربي كافة. فقد أثر التضخم على العادات الاستهلاكية وأنماط السلوك ونظام القيم، وعلى خريطة توزيع الدخول والثروات في المجتمع العربي. ولذا فمهما اجتهدنا في قياس وتحليل مؤثرات التضخم في الاقتصاد العربي، تظل هذه المؤشرات قاصرة على أن تعكس كل ما ألمَّ بالمجتمع والحياة الاقتصادية العربية من تشوهات واختلالات جديدة واستقطابات حادة في مناحي الحياة كافة، ولهذا يصعب اختزال ظاهرة التضخم في السياق العربي إلى كونها ظاهرة اقتصادية يمكن معالجتها من خلال أدوات السياسة النقدية والمالية التقليدية"، ويستطرد القول "وعلى الرغم من كل ذلك يظل صحيحاً القول إن الشرارة الأولى للعملية التضخمية في الاقتصاد العربي تعود إلى نمو "القاعدة النقدية" وبصفة خاصة الزيادة الكبيرة في "الأصول الأجنبية".. مما أدَّى بدوره إلى زيادة حجم الائتمان المقدم للقطاع المصرفي والحكومي والقطاع الخاص الذي قام من جانبه بتوسيع حجم ودائرة نشاط الاستيراد والنقل والتخزين والمضاربات العقارية والمالية للاستفادة من الموجات التضخمية المتصاعدة لتحقيق أقصى أرباح في أقصر فترة ممكنة".
الحديث عن التنمية الاقتصادية الاجتماعية مدفون في فكر المهتمين بالاستثمار من داخل الاقتصاد السعودي، والتركيز على تباهي كل منا أفرادا ومصالح بمخططاته ومكاسبها كاستثمارات ومجهودات قائمة بذاتها تعكس الفرص المتوافرة والاستطاعة للعمل والتوقعات الربحية الفردية التي لا تعكس حقيقة طبيعتنا بقدر ما هي حالة الأوضاع التي نحن عليها في أنَّ المجال أمام كل منا مثل "سفرة مفرودة" يأخذ منها كل من أراد بقدر استطاعته وطموحه لعدم توافر خطة إنمائية حتى ولو كانت إجمالية. إنَّ من حسن الطالع أنَّ كثيراً من المشاريع المقترحة ربما ما زالت أفكارا في مخيلات أصحابها، أو أنها متعثرة بين تضارب متطلبات الجهات الأربع المسؤولة "بسلحفية" مباشرة عن تقدير مصير خطوات المشاريع الكبيرة بالقبول أو الرفض بعد أن تنجح في اجتياز مراحل اختبار "والتمطع في القماش"، الجهات المتخصصة. الاستثمار في بلدي مع كثرة المراجع وتعددها تجربة فريدة عنوانها "أسمع كلامك أصدقك أشوف أمورك أستعجب".. وكثير من العجب يخلق المشاكل.
التضخم والغلاء مشكلة كبيرة تتآخى مع البطالة والفقر وبرزت بجلاجل مع بداية تصعيد الوفرة قبل ربع قرن، ونادراً ما تعالجها الصحافة الاقتصادية المحلية ولا الفكر التنموي السعودي ولا يضع الاقتصاديون السعوديون همومها ضمن أبحاثهم ونقاشاتهم ولا تتطرق لها الغرف التجارية الصناعية في ندواتها التي أعدادها مثل الهم على القلب، لبعدها عن شمولية واقع مكابدة المواطن والتنمية إضافة إلى ضعف نتائج ندواتهم. التضخم يظهر ويبين في التدهور المطرد للقوة الشرائية للنقود "المشكلة التضخمية" تتصاحب مع البطالة ويخفف من معاناتها قيام تنمية مؤسساتية لا تغفل التقانة والتدريب والإمكانات المطلوبة لتحقيق تقدم اقتصادي وتكافل اجتماعي من تدريب للمهارة وفرص عمل لكسب المعيشة ولا يغفل المشكلة التضخمية. مكاسب وثروات تنموية حلال يوفر رسم خططها نجاحات هنيئاً لمن دافع عنها، لكن جميع المكتوب والمناقش والمعروض لا يتعلق بالمواطن الذي قدراته وإمكاناته وخبراته محدودة. احتمال التهاون في أمره من الرسميين وأصحاب الأعمال لا يقلل من كونه استثمارا يعجز عن تحقيق تنمية خيًرة والقرار فيه لا بد أن يتجنب التجزئة والتسطيح. المسؤولية التنموية لمصحة الوطن أمانة عظيمة أمام القائد والحاكم والوطن والله سبحانه وتعالى والله أعلم.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي