جوانب أخرى لأزمة الرسوم الدنماركية
على الرغم من أن الرسوم الكرتونية التي نشرتها إحدى الصحف الدنماركية قد مست بصورة مباشرة لا يمكن قبولها نبي الإسلام الكريم (عليه الصلاة والسلام) بما دفع ملايين المسلمين إلى الاحتجاج بجميع الصور على تلك الإساءات، فإن إعادة النظر في مجمل تلك القضية ربما يفضي إلى نتائج أخرى توضح أبعاداً إضافية لتلك الأزمة الكبيرة.
فمن ناحية، لم يكن فقط مضمون تلك الرسومات مهيناً لنبي الإِسلام الكريم (عليه الصلاة والسلام) باعتباره الرمز البشري الأول والأوحد لذلك الدين، بل تضمنت الرسومات أيضاً إهانة وتمييزاً عنصرياً واضحاً ضد كل المسلمين الذين يرون في الإيمان برسولهم ـ وغيره من الرسل الكرام ـ أحد أصول عقيدتهم الدينية. فإذا كان رسول المسلمين نفسه حسبما أبرزته تلك الرسومات ليس سوى "إرهابي" يحمل قنبلة على رأسه ويقوم في رسم آخر بامتهان النساء والفتيات الصغار، فإن هذه الاتهامات تنسحب فوراً على كل المؤمنين به وبرسالته، أي كل المسلمين في بقاع الأرض كافة. فالمسلمون جميعاً وفي كافة العصور وكافة بلدان العالم متهمون حسب تلك الرسومات بأنهم "إرهابيون" و"معتدون" على النساء والفتيات الصغار، لأنهم حسب عقيدتهم الدينية فهم يتبعون خطى نبيهم في كل ما قاله وفعله. إذاً فما تحمله تلك الرسومات ليس فقط إهانة لمقدسات المسلمين بل وأيضاً اتهامات عنصرية واضحة لكل المسلمين لا تقوم سوى على أساس كونهم مسلمين مؤمنين برسالة نبيهم وأقواله وأفعاله. وهذا التكييف بالعنصرية والتمييز لما تضمنته الرسوم الدنماركية يستند إلى ما استقر عليه الفكر القانوني الغربي نفسه والفكر القانوني الدولي الذي يصف بالعنصرية أي اتهامات لجماعة بشرية تقوم على أساس أصولها العرقية أو جنسها أو لونها أو معتقداتها الدينية أو الثقافية.
من ناحية أخرى فإن تلك الرسوم المسيئة لرسول الإسلام الكريم (عليه الصلاة والسلام) ليست حادثة منفصلة عن سياق ممتد في دول الغرب من إساءات متواصلة ضد أديان أخرى وثقافات غير غربية من تيار فكري وسياسي راحت قوته تزداد في هذا الغرب خلال العقدين الأخيرين. فقد حدث هذا عدة مرات مع السيد المسيح عليه السلام وأمه السيدة مريم البتول، كما أصابت الإساءات عديداً من الرموز المهمة في بعض الثقافات الآسيوية والإفريقية. وقد سعى ذلك التيار الغربي الذي يصف نفسه بالحديث وما بعد الحديث ولا يزال يسعى من أجل هيمنة رؤاه الفكرية والسياسية على العالم كله، وفي جوهرها أن النموذج الغربي الحديث وما بعد الحديث هو الأفضل لكل شعوب العالم التي عليها الإيمان به والاندماج فيه والتخلي عن رؤاها التقليدية كافة وفي مقدمتها الأديان والثقافات المتنوعة. ويعطي ذلك التيار الحق نفسه في التدخل في مختلف دول العالم من أجل فرض ومراقبة الالتزام بما يرى أنه جوهر الحضارة الحديثة، أي الحرية المطلقة بدون حدود في الرأي وفي الفعل سواء كان الخاص أو العام. وضمن ذلك السعي والتدخل يقاتل ذلك التيار بكل ما يملك من وسائل ـ وهي كثيرة وفعالة ـ من أجل تفكيك وتدمير المقومات الدينية والثقافية التي تقوم عليها معظم مجتمعات العالم غير الغربية، من أجل تمهيد الطريق أمام إحلال نموذجه الحديث وما بعد الحديث مكانها.
من هنا فإن استمرار تداعيات وتفاعلات أزمة الرسوم الدنماركية في التصاعد على مستوى العالم كله وانتقالها من بلد إلى آخر ومن مستوى إلى مستوى أكثر تصعيداً، يضع العالم كله بمختلف ثقافاته ودياناته وأعراقه أمام مسؤولية حقيقية لتدارك الأمر قبل استفحاله أكثر من ذلك. فهذه الأزمة الكبيرة والمستوى العالمي الذي تطورت إليه يؤكد ضرورة أن يتم حلها ومنع تكرار نماذج أخرى لها في المستقبل عبر جهود دولية مشتركة وليس فقط بين العالمين الإسلامي حيث تم الاحتجاج والغربي حيث تقع الدنمارك التي فجرت الأزمة. ويعني هذا أنه أضحى واجباً اليوم على مختلف دول العالم ومنظماته المدنية أن تتعاون معاً لنقل الحوار حول تلك النوعية من الأزمات التي تعكس وتمس اختلاف الثقافات والأديان والقيم بين شعوب العالم، إلى المستوى العالمي وما يعبر عنه من منظمات وبخاصة منظمة الأمم المتحدة. ويعني نقل الأزمة إلى هذا المستوى أن تشترك في مناقشتها والسعي للتوصل لحلول لها جميع الديانات والثقافات المتنوعة عبر العالم والتي يبدو أنها جميعاً مهددة بما يسعى إليه ذلك التيار الغربي من تفكيك لها وإنهاء لأدوارها في صياغة الشعوب والمجتمعات.
إن التوافق على فتح حوار موسع بداخل الأمم المتحدة ووكالاتها المتخصصة حول كيفية التوفيق بين قيم العالم الحديث المحترمة والضرورية وفي مقدمتها حرية الرأي والتعبير وبين احترام تعدد الثقافات والأديان والقيم واحترامها، سيكون البداية الجادة لحل الأزمة الحالية ووضع أساس صلب لمنع تكرارها بشأن أي دين أو ثقافة أو شعب في أي مكان من الأرض. وربما يكون عقد مؤتمر خاص بهذه القضية تحت رعاية الأمم المتحدة أحد نتائج هذا الحوار بما يضع الحدود الواضحة بين حرية الرأي وإهانة الآخرين في عقائدهم أو ثقافاتهم أو أصولهم العرقية كما فعلت الرسوم الدنماركية مع رسول الإِسلام الكريم (عليه الصلاة والسلام) وجميع المسلمين السائرين على دربه.