نقابات العمال الألمان ومرحلة إعادة اكتشاف الذات
يا لها من هزيمة انتخابية! فقلما كشفت منظمة من قبل عن حجم الانشقاقات داخلها، كما فعل اتحاد نقابات العمال الألمان خلال انعقاد مؤتمره في برلين. فبدلا من تدعيم الاتحاد في مواجهته مع خطط الحكومة الاتحادية، قام المندوبون واحدا تلو الآخر وخطوة إثر خطوة بتقويض دعائم الاتحاد. أما الرئيس السابق واللاحق للاتحاد ميخائيل سومر فقد تلقى تحذيرا قويا بحصوله على 78.4 في المائة من الأصوات ونسبة تقل بست عشرة نقطة مئوية تقريبا عما حصل عليه قبل أربع سنوات فقط عندما تسلم منصبه لأول مرة. يذكر في هذا السياق أن كلاوس ماتيتسكي المقرب جدا من رئيس اتحاد عمال الصناعات المعدنية يورجن بيترز قد سقط في أولى جولات الاقتراع حيث إنه لم يحصل إلا على 44 في المائة من الأصوات.
لقد استطاعت أنجريد زيربروك المساعدة الجديدة لسومر، أن تهزم سابقتها أورسولا إنجيلين كيفر في الانتخابات لهذا المنصب، غير أن هذا الانتصار ليس عائدا لشخصها أو لعملها حتى الآن بقدر ما هي مدينة فيه لإرادة المندوبين وللضغوط التي مارسها رئيس اتحاد النقابات لمنع حدوث انشقاق جديد في قائمة المرشحين. ومع ذلك تبقى على الأوراق نتيجة الاقتراع المخيبة للآمال والتي لم تتعد 56.8 في المائة، وهي بالتالي أقل من نسبة 64 في المائة التي حصلت عليها زيربروك قبل أربع سنوات. أما أنيلي بوتنباخ فقد حظيت بتأييد جيد من المندوبين حيث حصلت على 78.8 في المائة من الأصوات، وهو ما يزيد حتى على الأصوات التي حصل عليها رئيس اتحاد النقابات نفسه.
والآن كيف يمكن تقويم هذه الهزيمة؟ في خلفيات الأحداث الكثير مما يمكن أن يفسر الكيفية والأساليب التي اتبعها الزعماء النقابيون لزحزحة أورسولا أنجيلين- كيفر بعيدا عن منصبها. لقد كان التفسير الرسمي لذلك هو أن من الصعب مواجهة فكرة "رفع سن التقاعد إلى سن السابعة والستين " ولكن هذا التفسير لا يقنع أحدا مع وجود أشخاص في الاتحاد ممن بلغت أعمارهم الثالثة والستين وتم انتخابهم لمناصب قيادية لمدة لأربع سنوات مقبلة. ولعل تشكيلة الكوادر القيادية في الاتحاد تشي بمناورات لإزاحة أشخاص معينين يقف وراءها زعماء أقوياء لنقابات (فيردي) وعمال الصناعات المعدنية، بهدف التخلص ممن يعتبرونهم مصادر للإزعاج، وهذا ما يفسر بشكل خاص الإجراءات العقابية التي اتخذت بحق عضوي نقابة عمال الصناعات المعدنية هيكسل وماتيتسكي.
ولكن لماذا كان على سومر أيضا أن يتعرض لعملية الإضعاف تلك؟ وكيف يتفق ذلك مع النتيجة المشرفة التي حصل عليها بوتنباخ، العضو السابق في حزب الخضر والذي يحظى برعاية نقابة فيردي؟ إن نتائج الاقتراع تخفي وراءها أكثر مما يبدو للعيان. فهي تعبر في الواقع عن قرار يمس صلب مسألة التوجه العام. فسومر هو قبل كل شيء عضو في الحزب الاشتراكي الديمقراطي، وإن كان لا يضمر حساسية إزاء الأحزاب الأخرى، وسبق له عام 2002 عندما تسلم منصبه لأول مرة أن احتل تصريحه بأن التحالفات الكبرى ليست دائما أسوأ الحلول عناوين الصحف الرئيسية وإن كان قد اضطره رؤساء اتحاد النقابات في كثير من الأحيان لتبني مواقف معارضة تقليدية علنا. ويمثل سومر توجها نفعيا مرنا قاعدته التمسك بما هو ممكن في إطار موازين القوى السائدة، وشعاره هو أن على من يريد أن ينجز شيئا أن يبقي العديد من الأبواب مفتوحة.
وكذلك الحال أيضا بالنسبة لزيربروك الذي حرص في خطابه الانتخابي على أن يبقي مسافة بينه وبين الأحزاب السياسية، وأن تتكون قائمته من ثلاثة من الاشتراكيين الديمقراطيين وواحدة من الديمقراطيين المسيحيين، وواحد من الخضر، واصفا ذلك بأنه "التأويل المعاصر" لوحدة الحركة النقابية. كما أراد أن يبعث برسالة مفادها أن الانسجام الجديد في رأس قمة الهرم في اتحاد النقابات الألماني قادر على توفير الأغلبية المطلوبة في البونديستاج (البرلمان الألماني).
أما السيدة بوتنباخ فتقف موقفا مغايرا، حيث إنها تدعو إلى الانفتاح نحو الخارج في اتجاه أعداء العولمة والمنظمات الاجتماعية وحركات السلام. وبهذا فإن الرابطة القديمة تقف على أهبة الاستعداد لإحداث التغير المطلوب في الاتجاه، وهو ما قد شرعت فيه بالفعل نقابات فيردي وعمال الصناعات المعدنية من خلال المعارضة خارج البرلمان، حيث إن الشعار الذي ترفعه يفيد بأنه إذا لم يكن بالإمكان توفير الأغلبية المطلوبة داخل البونديستاج فلا بد من توفيرها من خلال توحيد الصف مع مؤسسات أخرى هذه هي المسألة بالذات التي تهدد اتحاد النقابات مند عام 2003 بالتفسخ، فهو منقسم على نفسه بالنسبة للاستراتيجية الملائمة لأجندة عام 2010 إلى قسمين: المجموعة التي تدعو إلى المجابهة والمكونة من نقابات فيردي وعمال الصناعات المعدنية ومن الجهة المقابلة نقابات عمال التعدين والصناعات الكيماوية والطاقة والصناعات الغذائية والمطاعم التي تقف إلى جانب الحوار البناء. لقد تمكن سومر آنذاك، وبعد جهد جهيد، أن يعيد اللحمة لاتحاد النقابات ولكنها ها هي ذي الآن عرضة للتمزق من جديد.
مازال ثمة كثيرون في النقابات ممن يحسون بسعادة أكبر وهم يقفون في صفوف المعارضة، فبدلا من المشاركة في تحمل المسؤولية، يحبذ هؤلاء أن يلقوا بكامل المسؤولية على الدولة. وبدلا من تقديم اقتراحات بناءة لإعادة تشكيل دولة الرخاء الاجتماعي يكتفون بالمطالبة بمزيد من المخصصات المالية. وهم ليسوا معنيين بالشكوى من انعدام دعم الأحزاب السياسية. إن موقف هؤلاء الرافض الذي عبرت عنه بجلاء ذات يوم أنجيلين- كيفر أدى إلى العزلة السياسية لهذا التيار. إن برنامج هذه المجموعة الذي تمت مناقشته في المؤتمر يشي بالدعوة لانتهاج سياسة حمائية. غير أن الأعضاء يواجهون ذلك كله بشعور طاغ من الإحباط مما يدفع نحو 300 ألف من الأعضاء سنويا للتخلي عن هويات العضوية في النقابات.
إن اتحاد النقابات الألمانية يقف الآن أمام مرحلة مؤلمة من مراحل البحث عن الذات، وهو مطالب بتجديد نفسه على جميع الأصعدة الوظيفية منها والتنظيمية. وعليه أن ينهي إلى الأبد حالة العجز التي يعاني منها وحالة التنازع الداخلي، وهي مسائل تضر بسمعته أمام الرأي العام. وفقط عندما يحسن اتحاد النقابات معالجة الأزمة الراهنة كمنطلق لبداية جديدة، سيكون بإمكانه اكتساب فرصة جديدة واحتراماً جديداً على الصعيد السياسي. تلك هي المهمات الصعبة التي تنتظره خلال السنوات الأربع المقبلة.