المزاجيولوجيا

تقول الحكمة العتيدة: إذا أردت أن تمتحن إنسانا فوله مسؤولية وانظر كيف يتصرف, ولا شك أن كثيرين منا وقعوا تحت مسؤولية واحد من هؤلاء. ذاك الذي يرسم نفسه طاووسا ويضع على وجهه قناع الحزم ويرغم عينيه على أن تنظرا شزرا في وجوه الناس. وذاك الذي لا يجد ما يفرض به هيبته ومكانته إلا بالتطفل على مكاتب الموظفين والتلصص على حركاتهم وسكناتهم, وخلع الأهمية القصوى ولو عن طريق تخويف موظفيه بأوقات الحضور والانصراف, حتى وإن كانوا هم حقا أكثر دقة وانضباطا منه وأكثر نزاهة وإنتاجا.
أو المرائي الذي عينه على رضا المسؤول الأول في الدائرة, يتظاهر في إبداء حرصه وإخلاصه وتفانيه ولو من خلال اللف والدوران في الأروقة والمكاتب أو من خلال الإيحاء للمسؤول الأول بأنه فعل كذا, ولفت نظر فلان, وأنذر علانا, وقام بترتيب هذا القسم وتلك الإدارة, وقد يصل به الأمر حد الطلب إلى المسؤول لمرافقته للاستقواء به وفرض الهيمنة والانضباط وفي الوقت نفسه إقناع المسؤول الأول بأنه "مسؤول آخر ألسطا" وأنه يستحق أعلى المراتب والامتيازات والمكافآت والتكليف بخارج الدوام طوال العام!
دع عنك أولئك كلهم فأنت عجنتهم وخبزتهم بمعايشتك لهم ولتفاهاتهم ونرجسياتهم وانتهازياتهم اللزجة. مع أنك تعاني من أذيتهم, إن لم يكن على المستوى الشخصي, فعلى المستوى النفسي لما يثيره أمثالهم فيك من قرف ونفور.
لكن إياك أن تدع عنك ذاك المسؤول الذي ما إن تناط به المسؤولية ويدوخ ببريق المنصب وفخامة فضاء المكتب حتى يدعو لاجتماع همهمم يكون قد أعد له الكلمات والحركات المؤثرة في الليالي السابقة, وهو الآن في غاية النشوة يتكلم عن التطوير والتحديث والتعاون والعمل الجماعي والتطلعات لجعل هذه الدائرة نموذجا تغار منه أرقى المؤسسات المشهورة في العالم.
ها أنت مبهورا باللغة وأمواج الكلام المتلألئ كنهر من الفضة, مفعما بحماس لفتح خزائن طاقتك وإبداعاتك لتسخيرها في خدمة هذا المسؤول "الهمام" الذي يخجلك بتواضعه ورجائه لك وإلحاحه عليك بألا تبخل عليه باقتراحاتك وآرائك السديدة والذي يصر على أنه ينتظرها ليستفيد منها وبأنه لا غنى له عنها ولا يستطيع إنجاز الأعمال من دونها.
تصدقه.. تهرول مثل مسكون بعفاريت الأرض كلها إلى مكتبك وتوقد نار رأسك, تنزف خبرتك وثقافتك وتجربتك على الورق، تصيغ رؤيتك وخطتك لما ينبغي أن يكون وما لا ينبغي بلغة ناصعة صادقة وبأفكار خلاقة بناءة, تدفع بها مطبوعة أنيقة لفخامته موقنا أنك قد وفقك الله, في هذه المرة, إلى مسؤول متحضر مستنير يشجع المواهب والقدرات وأن الأيام قد عوضتك أخيرا وعوضت المؤسسة بالرجل الكفؤ الرائع.
أنت الآن بعد شهور, بعد عام, بعد أعوام من تقديمك مقترحاتك لفخامته, ومثلك زملاؤك ولا حس ولا خبر, وعبث وهراء كل ما تمت كتابته, فلا شيء غير الروتين والبيروقراطية واستنساخ وجوه المسؤولين السابقين بتخثرهم وتثاؤبهم وتعاطي أقداح الشاي وتقليب الصحف و"العنطزة" وأخواتها.
أما أنت فما عادت لديك القدرة على تصديق حتى نفسك لتقدم اقتراحا لكيلا تنطلي عليك مزاعم الحماسات الفجائية والنخوات المسرحية لفخامة أي مسؤول جديد.. أنت نفسك لن تصدق نفسك, فكم مرة أحسنت الظن بهذا المسؤول أو ذاك وبرهنت عن استعدادك بيد أن سراب وعود مسؤول بعد آخر تحول في نفسك إلى قنوط مدمر, ولم يعد في العمر متسع لكي تبرأ من سم القنوط.
هذا التوصيف لبيئة العمل عندنا يكاد يكون ظاهرة شاملة تتحكم فيه نزعة "المزاجيولوجيا" ـ الإدارة بالمزاج ـ وما لم يعاد النظر في ثقافة العمل ويتم إخضاعها لمدونة أخلاقية لا تجعل من المسؤول سيفا مسلطا على موظفيه ولا أن يترك محتكرا لموقع لا يستحقه ولا أن يظل الدجل والاستغفال سائدين فلن يكون تطور ولا إبداع.. فالمدونة الأخلاقية تقتضي بأن تكون الأجهزة والدوائر قابلة لسماع صوت الموظفين والنقد دون خوف من تربص المسؤول ضد الترقية أو للتجميد أو الإيذاء.
المدونة الأخلاقية دستور عمل أخلاقي ينهض على الشفافية والعدل، ينبغي إعداده ونشره والتقيد به والاحتكام إليه وإلا فإن مديرا, إثر مدير, ومسؤولا إثر مسؤول سوف يعيدون الكّرة من جديد لتظل الجهات أو الإدارات مغانم خاصة والأعمال تدار بمزاج معاليه أو سعادته أو سيادته وعلى الإنتاج السلام.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي