النهوض الآسيوي السلمي والرحلة الملكية
إذا كان القرن التاسع عشر قد شهد بروز ألمانيا الموحدة، والقرن العشرون ظهور الولايات المتحدة، فإن القرن الحادي والعشرين يشهد صعود نجم الصين والهند، لعوامل ثلاثة: نمو اقتصادي متواصل، وتطور في القدرات العسكرية, فضلاً عن الحجم السكاني الكبير.
إن الصين لوحدها حكاية كبرى قائمة بذاتها، لكن الإنجازات الهندية لا تقل أهمية بحال! يقول اريك ازرايلوفيتش في كتابه "عندما تغيّر الصين العالم": "لقد استيقظت الصين فارتجف العالم".
إن الإنجازات الآسيوية سواء في الصين والهند أو حتى في كوريا وتايوان وسنغافورة وماليزيا كلها تعكس قصص نجاح مذهلة ومبهرة. وهي تبرهن جميعها على أن الانطلاق والتقدم لا يقتصران على شعوب أو مناطق دون أخرى في العالم، وأثبتت أيضا وبشكل قاطع على أن أية أمة تريد العزة والمنعة والحياة الكريمة وتعمل بصدق وعزم من أجل ذلك، فلا بد أن يستجيب لها القدر ولا بد لقيد التخلف فيها أن ينكسر.
تميز النهوض الآسيوي السلمي، في تصوري، بمنحى مختلف عن النهوض الغربي، فمع التسليم أن الحضارات العالمية يعم خيرها كل الإنسانية بشكل أو بآخر وفق نظرية اليد الخفية، إلا أن المساهمات الآسيوية تبدو مغلفة بروح أكثر إيجابية من حيث قلة اتصافها بالجشع والأنانية التي عرف بها النهوض الغربي المادي. ومن الواضح أن للفلسفة والقيم والثقافة الشرقية الأكثر إنسانية والأقل مادية دورا كبيرا في هذا. والناظر اليوم يرى كيف يتمتع ملايين الناس في كل قارات العالم، خاصة من ذوي الدخول المحدودة، بالسلع والمنتجات الآسيوية الأقل تكلفة والمتقاربة جودة مع نظيراتها المصنعة في الغرب.
لقد قدم الشرق للعالم سلعا معقولة التكاليف في وقت وصلت فيه أسعار السلع المصنعة في الغرب إلى مستويات عالية بسبب ارتفاع تكاليف العمالة وبحجة ارتفاع تكاليف البحث العلمي، حتى في السلع الضرورية كالأدوية، وهي حجة لا تنتهي ويتم الالتفاف حولها حتى بعد انتهاء فترة امتياز احتكار الإنتاج. ومن صور الرحمة الإلهية التي يمتن بها المولى عز وجل على خلقه على ما فيهم من جحود، أن يدفع عز وجل الناس بعضهم ببعض "ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض .." الآية.
يقود اليوم هذا النهوض الآسيوي دولتي الصين والهند، اللتين ينظر إليهما على أنهما الماردان القادمان بكل ما تحمله هذه الكلمة من معنى، فمنذ أن قرر النظام الشيوعي في الصين الانفتاح على الاستثمار الخارجي عام 1978، أصبحت الصين أحد أسرع الاقتصاديات نموا في العالم وحجزت مكانا لها بين أكبر عشر دول اقتصادية فيه، فهي اليوم خامس أكبر مصدر للسلع التجارية بعد الولايات المتحدة وألمانيا واليابان وفرنسا.
وقد وصل إجمالي الناتج المحلي الصيني عام 2004 إلى 7.662 تريليون دولار أمريكي، مقابل 11.75 تريليون دولار أمريكي للولايات المتحدة. وإذا استمر معدل النمو السنوي الصيني في الارتفاع بشكله الحالي، فإن الصين مؤهلة لكي تتجاوز الولايات المتحدة في ما يتعلق بإجمالي الناتج المحلي مقارنة بعامل القدرة الشرائية خلال السنوات العشر المقبلة.
إن "بروز الصين" ليس في الواقع إلا تسمية بسيطة، ذلك أن كلمة "انبعاث" من شأنها أن تكون أكثر دقة، فلقد كانت الصين بسبب حجمها وتاريخها زعيمة العالم من عام 500 إلى عام 1500 حتى من دون أن تبلغ مدى شاملاً.
أما الهند فإنها فعلا تكاد تلحق سريعاً باليابان من حيث إجمالي الناتج المحلي مقارنة بعامل القدرة الشرائية، حيث حققت ناتجا محليا بلغ نحو 3.319 تريليون دولار، وذلك مقابل 3.745 تريليون دولار حققتها اليابان. ومن المرجح أن تتجاوز الهند اليابان لتصبح خلال عشر سنوات أيضاً صاحبة ثالث أكبر اقتصاد في العالم بعد الصين والولايات المتحدة. ولولا أعداد السكان الهائلة في هاتين الدولتين لكان لهما تصنيف اقتصادي عالمي أكثر تقدما.
يا له من إنجاز لدول كانت حتى وقت قريب جدا تصنف في عداد الدول النامية!
إنها قصص ونماذج لكفاح شعوب عرفت كيف تهديها الرؤية الاقتصادية الواضحة والإرادة الإدارية الصادقة والعزيمة التنظيمية الماضية نحو النجاح!
لكن على الرغم من هذه الحقائق وهذه الإنجازات، إلا أن هناك تحديات جادة تواجههما، فالانتعاش الاقتصادي الكبير في الصين جعلها متعطشة لإمدادات نفطية متزايدة، ففي عام 2003، تقدمت الصين على اليابان لتصبح ثاني أكبر مستهلك للمنتجات البترولية بعد الولايات المتحدة. وفي عام 2004 زاد استهلاك الصين النفطي 15 في المائة في حين أن إنتاجها البترولي لم يزد سوى 2 في المائة.
وعندما تكون الصين ثاني أكبر مستهلك للنفط في العالم، فلا بد أن تلتقي مصالحها مع السعودية كأكبر مصدر للنفط في العالم وحاضنة أكبر احتياطي عالمي منه. لهذا تأتي الزيارة الملكية الأولى لخادم الحرمين الشريفين لبعض دول آسيا بقصد تثبيت وترسيخ تعاون استراتيجي متقدم بين بلادنا ودول آسيا الناهضة. تعاون يتخطى العلاقات الضيقة القائمة على تسويق النفط والغاز إلى رحاب أوسع يشمل مجالات تجارية وتقنية واتفاقيات لتجنب الازدواج الضريبي، إضافة إلى اتفاق يسمح بالحصول على قرض سعودي لتحسين البنية التحتية في مدينة اكسو في مقاطعة شينجيانغ الغنية بالنفط، واتفاق لتسهيل "التعاون في مجال التدريب المهني".
لقد شهدت العلاقات التجارية بين المملكة والصين تطورا ملحوظا في السنوات الأخيرة، فبعد أن كان الميزان التجاري مع الصين يميل لصالحها حتى عام 2000 ، أخذ في الآونة الأخيرة يميل لصالح بلادنا بسبب الحجم المتزايد من الواردات الصينية من النفط السعودي، إذ تشكل واردات الصين النفطية من السعودية نحو 15 في المائة من جملة وارداتها، بينما بلغ حجم تجارتنا معها نحو 15 مليار دولار. وكذلك الحال مع الهند، فبعد أن كان حجم تجارتنا معها لا يتعدى مئات الملايين من الدولارات قبل عدة سنوات، وصل حجم تجارتنا مع الهند إلى نحو سبعة مليارات دولار، معظمها صادرات نفطية للهند.
وفي اعتقادي أن هذه الدول جاهزة ولديها الدوافع الكافية لزيادة وتعميق هذا التعاون، بل والإسراع به. لذا يتوقع أن تؤدي هذه الرحلة الملكية إلى إطلاق علاقات متميزة وتوقيع عقود مهمة وسيكون من نتائجها أيضا حرص المملكة على تذليل أية معوقات تقف دون توسيع هذا التعاون وتعميقه. لقد حالت الظروف الاقتصادية في العقدين الماضيين دون زيادة وتعميق وجذب الاستثمارات اليابانية لاقتصادنا.
لذا اتجهت اليابان أكثر إلى دول رابطة جنوب شرقي آسيا "الآسيان" في عقد الثمانينيات، ثم أخذت تتجه نحو الاستثمار في الصين خلال تسعينيات القرن الماضي، نظرا لأن هذه الدول كانت مؤهلة أكثر لجذب الاستثمارات اليابانية بالقياس إلى معدلات النمو السريعة التي بلغتها خلال العقدين المذكورين.
لكن الظروف الجديدة لاقتصادنا تدفعنا لتأسيس تعاون استراتيجي حقيقي مثمر مع الصين والهند وغيرهما من الدول الآسيوية الناهضة. وعلينا أن نقنع شركاءنا أن تأسيس علاقات اقتصادية وتجارية (بل وحتى سياسية وعسكرية وأمنية وثقافية) هو في مصلحة الجميع ومن شأنه أن يعزز لعلاقات استراتيجية في الأجل الطويل.
صحيح أن هذه الدول سوف تحرص على تنويع مصادر إمداداتها النفطية، لكن الحقائق تشير إلى زيادة اعتمادها على إمدادات المنطقة، فقد سبق لليابان أن عمدت إلى تقليل درجة اعتمادها على نفط المنطقة وخفضته إلى نحو 67 في المائة في ثمانينيات القرن العشرين، لكن تغير أوضاع السوق وزيادة الطلب العالمي على النفط خاصة، أعاد اعتماد اليابانيين على نفط المنطقة، لتبلغ واردات اليابان من منطقتنا في العام الماضي نحو90 في المائة من احتياجاتها. وستعتمد الصين والهند أيضا على نفط المنطقة أكثر مع استمرار نموهما الاقتصادي، وهذا ما سيعزز لديهما الرغبة لتقوية علاقاتهما الاقتصادية مع بلدنا.
هناك إمكانات هائلة للتعاون بين بلادنا ودول آسيا الناهضة وعلى رأسها الصين والهند. صحيح أن التعاون كان بطيئا في السابق، غير أنه لم يفت الأوان بعد، فضلا عن أن بدايات هذا التعاون لن تكون ناشئة من الصفر، لكن حتى يؤتي هذا التعاون ثماره علينا أن نسابق الزمن من جانبنا أن نهيئ اقتصادنا ونعيد ترتيب مؤسساتنا ونحسن من طريقة إدارة مواردنا لنجعلها مؤهلة أكثر لتعزيز هذا التعاون وعدم انصرافه إلى دول أو مناطق أخرى كما حدث سابقا مع اليابانيين.
تشير كثير من الدراسات والأبحاث إلى أنه بعد جيل من الآن، وفي حال عدم حصول أي مشاكل، سيكون للصين والهند شأن عظيم. وسيشهد العالم أقوى صور التنافس في تاريخه، وسيتخطى هذا التنافس المترددين والمتأخرين.
إن النهوض الآسيوي السلمي والإيجابي، الذي يؤمن بالتعاون الإقليمي والعالمي، حري أن يشجعنا ويغرينا أكثر للإسراع في مد وإقامة وتعزيز بناء جسور تعاون استراتيجي وغير تقليدي مع هذه الدول.
ستغير الصين والهند أشياء كثيرة في العالم، ومن ضمنها تحسين أسعار المواد الأولية لبائعيها، لأن شهيتهما كبيرة وما يجري لأسعار النفط اليوم صورة بسيطة من هذا التغيير.
أستاذ الاقتصاد ـ جامعة الملك عبد العزيز