دور وكالة المخابرات المركزية الأمريكية في الملف النووي الإيراني

وكالة المخابرات المركزية تعاني من فقدان المصداقية وتشكو مر الشكوى من حالة الاحتقار التي آلت إليها. ذلك أن الوكالة قد احترقت بشدة في الأعوام الأخيرة وفقدت أنيابها ومخالبها بل وفقدت القدرة على الرؤية والرصد. فقد صب الأمريكيون جام غضبهم عليها لأنها لم تنجح في منع هجمات الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) 2001.

لا ينسى الغرب لإيران أنها أول دولة شرقية تحتل أراضي دول غربية, عندما احتلت اليونان والبلقان. بل إن غزو الإسكندر المقدوني لإيران كان رد فعل للغزوة الفارسية. والغرب لم ينس كذلك القرون الثمانية التي عاشها المسلمون في الأندلس أو الانتصارات التركية المبهرة ضد روسيا في القوقاز وضد النمسا وبولندا واليونان وغيرها.
وقد يدعي ساسة الغرب أن ذلك مجرد تاريخ ذهبت أيامه, ولكن الموقف الأوروبي من تركيا والأمريكي من إيران وباقي الدول الإسلامية يؤكد أن الضغينة عالقة بالصدور, وتأخذ أشكالا متجددة من المواجهة.
وقبل أن نتحدث عن دور المخابرات المركزية الأمريكية في الملف الإيراني نذكر القارئ العزيز بأن وكالة المخابرات المركزية تعاني من فقدان المصداقية وتشكو مر الشكوى من حالة الاحتقار التي آلت إليها. ذلك أن الوكالة قد احترقت بشدة في الأعوام الأخيرة وفقدت أنيابها ومخالبها بل وفقدت القدرة على الرؤية والرصد. فقد صب الأمريكيون جام غضبهم عليها لأنها لم تنجح في منع هجمات الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) 2001, ورغم كل ما يتاح لها من أموال وإمكانات نجح المهاجمون في تحقيق هدفهم. وسقطت الوكالة سقطة ثانية عندما بالغت في تضليل الإدارة الأمريكية بتزويدها بمعلومات مغلوطة عن العراق خاصة ما يتعلق بقدراته في مجال أسلحة الدمار الشامل, وإقناع البيت الأبيض بأن الشعب العراقي سيخرج لاستقبال قوات الغزو بالورود والرياحين. ويرجع ذلك إلى ضعف بالغ في استقاء المعلومات والاعتماد على العملاء والحلفاء. وكان الثمن تورطا أمريكيا لا يعرف أحد متى سينتهي.
نتيجة لهذا التردي في الأداء قامت إدارة بوش بتغييرات واسعة في الوكالة لعلها تفلح في العودة إلى دورها القديم. وكانت أبرز المهام التي أتيحت للوكالة لإثبات ذاتها مهمة الملف النووي الإيراني.
والمهمة بالغة الصعوبة, لأن المصادر الأولية جاءت من معارضين إيرانيين وهو نفس ما حدث في العراق, وأصبح لزاما على الوكالة أن تجيب عن عدة تساؤلات:
ـ هل ستنجح إيران في إنتاج أسلحة نووية؟
ـ كيف يمكن لها اختراق إيران لتفهم المشكلة؟
ـ إلى أي مدى يمكنها أن تحدد السياسة الأمريكية تجاه إيران؟
ـ ما المواقع التي يجرى فيها العمل والبحث؟ وأي عمل يجرى تحديدا؟
قررت الوكالة العمل على إعداد المعلومات التي تتيح للحكومة الأمريكية اتخاذ قرار حاسم, وقد دخلت في سباق مع أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية التي تنسق بالكامل مع واشنطن في هذا الملف, بل إن تقسيم أدوار العمل الفعلي والعلني بدأ بزيارة وفد إسرائيلي لموسكو منذ أيام. ومن الناحية المهنية تحاول وكالة المخابرات المركزية الأمريكية أن تقول لقيادتها إنها الأقوى والأفضل.
وسبيلها إلى ذلك مواجهة أمرين محيرين إلى حد الغموض, وهما: أولا, عزل الخواص الفريدة للمادة النووية التي يتم إنتاجها في المفاعلات الإيرانية, بما يتيح لخبراء الرصد النووي تحديد منشأ المواد الأساسية ولذلك تحرم إيران من خصوصية غموض المصادر والتي تديرها طهران ببراعة وستكشف هذه العملية التعاملات الإيرانية كافة. وهذا في حد ذاته سيردع إيران عن توصيل ما بحوزتها إلى دول وجماعات أخرى خاصة الجماعات الإسلامية التي تشن الحرب على الولايات المتحدة الآن.
ثانيا, على وكالة المخابرات المركزية الأمريكية أن تقدم تحليلا مفصلا حول قدرة إسرائيل على ضرب المرافق والمفاعلات النووية الإيرانية.
لأن السيناريو المعد للتخلص من القوة النووية في إيران هو تكليف إسرائيل بضرب المواقع الحيوية كما فعلت بنجاح ضد المفاعل العراقي. والمعروف أن أمريكا قد ألمحت في تحذيرات متعددة أن إسرائيل "قد تشن هجوما وقائيا ضد مراكز المعالجة والتحويل" ولكن هذا الإنذار أسفر عن زيادة عزم إيران لمضاعفة جهودها وزيادة حجم برنامجها بحيث تزداد المواد النووية التي يمكن أن تصل إلى جماعات غير مسؤولة. فضلا عن أن إيران قد وعت الدرس العراقي فوزعت قدراتها النووية على عشرات المواقع. ومن ثم أصبح التحدي أمام الموساد والوكالة المركزية هائلا لأهمية الحصول على معلومات محددة. ومعظم عملاء الغرب قد خرجوا من إيران ولذلك فإن الحصول على معلومات من مجتمع عقائدي أصبح أكثر صعوبة.
فالوكالة المركزية للاستخبارات هي الجهة الرئيسة التي يمكنها تحويل التنبؤات الحكومية الغامضة والمعلومات المبهمة وحّول الواقع النووي والنوايا الإيرانية إلى حقائق يستند إليها ويُعتد بها.
وهو عمل في غاية الصعوبة, خاصة مع تضارب التصريحات الإيرانية بطريقة مقصودة لإرباك صناع القرار في واشنطن وإسرائيل.
والسؤال الأكبر هو: هل تريد إيران أسلحة نووية أم مجرد توليد طاقة نووية كما تقول طهران دائما. لأن النفط مادة قابلة للنضوب, وساعتها سيكون لدى الغرب الصناعي طاقة نووية بينما تعاني الدول النفطية من نضوب النفط ومن ثم الموارد ثم العجز عن توليد ما يلزمها من طاقة.
والسؤال الثاني الذي تسعى وكالة المخابرات المركزية الإجابة عنه هو متى ستصبح الأسلحة جاهزة في حالة كان الهدف إنتاج أسلحة؟ وهي إجابة تتوقف على إجابة السؤال الأول.
ولصعوبة السؤالين تتنافس دوائر الإعلام مع دوائر الفكر والتقييم مع محللي الحكومة وخبراء الاستراتيجية والتصنيع والتسليح والنوويات للهيمنة على عقول صانعي القرار. وهنا نرى ضعف رصيد وكالة المخابرات المركزية بعد فشلها الذريع في الملف العراقي. وتجدر الإشارة هنا إلى شكوى المخابرات الأمريكية من قلة مصادرها البشرية في المنطقة بصورة شديدة والتباين اللغوي الذي يجعل خيوط التواصل المعلوماتي واهية إن لم نقل مهترئة تماما.
ولكن هناك عاملين يعملان لصالح وكالة المخابرات المركزية, هما:
أولا, إن أسرار النوايا الإيرانية ليست التساؤل الوحيد المهم لواضعي السياسة. ولذلك فإن تركيز الوكالة على الألغاز القابلة للحل أفضل من اللهث وراء الألغاز غير القابلة للفهم, مما يعني تكثيف الجهود السرية.
ثانيا, على عكس ما حدث في عملية ما يسمى تحرير العراق, فإن إدارة بوش ليس لديها أفضليات نهائية جاهزة وواضحة, لأن العسكريين الأمريكيين متورطون لآذانهم في العراق, والتكلفة المحلية للحملة ضد العراق بدأت تتفاقم وتحدث دويا متصاعدا يصم آذان الإدارة, مما يجعل الإقدام على "حرب وقائية" جديدة أمرا بعيد الاحتمال. وهذا يفسر سماح واشنطن لحلفائها الأوروبيين بالتدخل بشدة وتقديم المبادرة تلو المبادرة دون أن تجازف هي باتخاذ موقف محدد قد يعرضها للتورط.
والدرس المستفاد من التجربة العراقية والذي تعيه الاستخبارات الأمريكية قبل المسؤولين في الإدارة هو أن التحليل المتسرع والضغوط السياسية والاستماع إلى أصحاب المصالح الملحة أدت إلى ارتكاب أخطاء مدمرة في تحليل الموقف العراقي. ومنذ الحرب العراقية فقد مدير وكالة مكافحة المخابرات المركزية موقعه كمستشار أول للرئيس حول الشؤون الأمنية وحل محله مدير الاستخبارات الوطنية. ذلك أن كل من نصحوا الرئيس الأمريكي بتغيير نظام حكم على أساس تملكه لأسلحة دمار شامل, قد واجهوا مصيرا مظلما, فهم يتخبطون في التبريرات خاصة بعدما ثبت عدم وجود أي من هذه الأسلحة. وقد انهارت الثقة بالبيت الأبيض ووكالة المخابرات المركزية بصورة واضحة, وتمثل ذلك في نظرة القلق التي نراها على وجوه حلفاء أمريكا وحجم الكراهية التي يشعر بها الخصوم والمحايدون.
وهناك شق عالمي كانت وكالة المخابرات المركزية تحرص على تغطيته ويتعلق بالموقف الدقيق لكل من روسيا والصين وفرنسا وألمانيا إزاء الملف النووي الإيراني. أما اليوم فقد تخلت عنه لوزارة الخارجية ومجلس الأمن القومي. والصورة العامة تنبئ بأن كل هذه الدول لا تعارض قيام إيران بتطوير قدراتها النووية طالما ستخدم أغراضا سلمية, وإن كانت الصين لا ترى مانعا في تملك إيران القنبلة النووية أسوة بالهند وباكستان ومن باب الضغط على أمريكا وتشتيتها عن الصين. أما روسيا فهي تستفيد ماليا من إيران من خلال بيع تسهيلات نووية.
ويرى المراقبون أن قيادة وكالة المخابرات المركزية تشعر بإحباط شديد, وتدرك أن الملف الإيراني لن يقدم لها فرصة الظهور بموقف المنقذ الساهر, لمحو الصورة التي تكونت عن الوكالة باعتبارها غافلة عن دورها كما كشفتها أحداث العراق 2003 وهجمات الأبراج 2001.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي