الصين تعيد تخطيط سياسـة النمو
على الرغم من أن الصين مازالت تعتبر رابع أكبر اقتصاد في العالم، إلا أنّ وقع صدى نمـو هذه الدولة النـاهضة أصبح لـه أثرٌ فعال على الاقتصاد العالمي يفوق الأثر الناتج عن الأحداث الاقتصادية في دول صناعية متقدمـة مثل إيطاليا، وفرنسا وبريطانيا، دول يقل معدل دخلها الإجمالي عن الصين. فحينما تعزم الحكومة في بكين على ضبط سرعـة واتجاه النمو الصيني عن طريق مفاتيح ضبط معينة، نجد الأسواق المالية العالمية تتفاعل تبعا لذلك بحساسية شديدة.
زيادة الفوائد التي قام بها البنك المركزي الصيني لأول مـرة بعد ثمانية عشر شهرا ضغطت على أسعار الأسهم و أسعار المواد الخام في جميع أقطاب الكرة الأرضية. فعليا لم يظهر أي ذعـر بين الأوساط المالية، بل على الأحرى تجلت للأسواق النظرة السريعة على أن ما فعلته الحكومة في بكين كان بمثابة همسـة إنذار صدرت في الوقت المناسب. حيث إن حمـاس الصين بوجه عام، خلق بكل ما تحمله الكلمة من معان مضاربات في بعض الأسواق، لهذا على سبيل المثال ارتفعت أسعار بعض المعادن الصناعية كالنحاس و الخارصين خلال هذا العام بما يقارب الثلثـين، فالصين تعد من أكثر دول العالم استهلاكا لتلك المعادن.
في الواقع، مغزى الحكومة الصينية من وراء هذه المناورات المثبّطة ليس تلطيف الأجواء في الأسواق الرأسمالية وأسواق المواد الخام. بل إنّ ما يقلق الحكومة في الدرجة الأولى هو تكاثر تلك الطاقات الزائدة عن المطلوب في اقتصاد الصادرات الصيني، فخلال الأشهر الثلاثة الأولى من هذا العام منحت البنوك قروضا بما يقارب معدل ما خططت له الحكومة خلال النصف الأول كله من هذا العام. كما أن رفع الفائدة الأساسية من البنك المركزي للقروض السنوية بـ 27 نقطة أساسية إلى 5,85 في المائة يعتبر لدولة بلغ معدل النمو السنوي فيها خلال الربع الأول 10.2 في المائة، أمـرا طبيعيـا. لكن تحذيرات هيئة التخطيط الوطنية الصينية من الاستثمارات العالية في قطاع المعادن، والفحم والأسمنت تشير بوضوح إلى اتجاه خطة الحكومة الصينية الساعية ليس إلى تقليص النمـو بل إلى نقل مركـز ثقله إلى قطاعات أخرى. فالحكومة تحاول تركيز الاستثمار في هيكلة البنية التحتية للمناطق الريفية والقروية، بل الأهم من ذلك في إنعاش وتنشيط الاستهلاك المحلي، لهذا يتناسق مع إطار تلك المساعي أن معدل الفائدة الأساسية لمبالغ التوفير لم يطرأ عليه أي تغيير.
لكـن إذا كان المقصود هو تقليص نمو دخل الدولة الإجمالي بصورة ملموسة، فسيكون أول مفتاح ضبط رئيسي تديره الحكومة هو رفع قيمة العملة المحلية اليوان بصورة لها معنى، حينئذ ستكون تلك الخطوة أشبه بفرض سياسة خفض السيولة النقدية . ولكن بغض النظر عن المضاربات المبالغ فيها في أسواق العقارات داخل المدن لا تملك الدولة أية مشاكل مع سياسة التضخم المالي. بالعكس، فالأجور ترتفع بسرعة متواصلة، ولكن ليس بالسرعة الكافية لمجاراة سرعة نمو القوة الإنتاجية في البلاد بحيث تنخفض بذلك تكاليف أجور وحدة العمل، فلهذا السبب فإن الانكماش المالي للصين كارثة أدهى من التضخم المالي. فعليا، هذا سبب جوهري وراء تأجيل الحكومة الصينية لرفع قيمة العملة المحلية إلى أطول فترة ممكنة، والتي تطالب به -بالأخص- الولايات المتحدة.
في الماضي القريب اتسمت التعديلات الاقتصادية الضخمة من الحكومة الصينية بطابع البطء وسرعة التلاؤم عليها، فحينما قامت الصين في تشرين الأول (أكتوبر) 2004 برفع الفائدة وفي تموز (يوليو) العام الماضي، برفع قيمة اليوان بصورة طفيفة، استطاعت أسواق المال العالمية أن تعود بسرعة إلى مباشرة أعمالها العادية، وكذلك قرع الطبول الذي صاحب في الفترة الأخيرة زيادة البنك المركزي لقيمة الفائدة، أيضاً بدا ضعيف الوقع على الأذان. فقط في حالة واحدة، وذلك عندما سنت الحكومة في ربيع 2004 قوانين بتنفيذ حزمـة من الإجراءات لمراقبة سير منح القروض، حينئذ استغرق الوقت عدة أسابيع حتى تمكن المستثمرون من استساغة لقمة القروض الصينية من ارتفاع أسعار أسهم المواد الخام في أسواق البورصة الآسيوية ولربمـا يتأكد المستثمرون من أن بكين تراقب الوضع الاقتصادي في البلاد عن كثب وأنه مهما نما دخل الدولة الإجمالي سواء بقيمة 8.9 أو 10 في المائة، فالاتجاه الجاذب لاستثمارات المواد الخام لن يتأثر بصورة جذريـة. فالفاصل هو أن تبقى السفينة على خط مسارها الطبيعي.
وكذلك ينطبق المثل على باخرة الاقتصاد الضخمة الأخرى: الولايات المتحدة الأمريكـية. هنالك نما الاقتصاد خلال الربع الأول من هذا العام بمعدل سنوي بلغت نسبته وفق تقديرات مؤقتة 4.8 في المائة، الأعلى منذ عامين. صحيح أن هذا النمو لن يستطيع أن يحافظ على سرعته خلال هذا العام، ولكن في الوقت نفسه فإن المخاطر ضئيلة جدا من أن يتخلف الاقتصاد الأمريكي وراء أسوار نمو القوة الأمريكية.