وجه آخر للعامل الجيوسياسي

وجه آخر للعامل الجيوسياسي

وجه آخر للعامل الجيوسياسي

<a href="[email protected]">[email protected]</a>

ظل العامل الجيوسياسي والتطورات الأمنية الخاصة ببعض المنتجين عاملا مؤثرا في سعر النفط. وذهب البعض أمثال وزير النفط السعودي المهندس علي النعيمي والباحث المعروف دانييل يرجن مؤلف كتاب الجائزة عن تاريخ الصناعة النفطية، إلى أن نحو 15 دولارا من السعر الحالي لبرميل النفط تعود لأسباب جيوسياسية وذات صلة بالأوضاع الأمنية والسياسية.
وليس هذا غريبا، فعلى امتداد تاريخ الصناعة الذي تجاوز قرنا ونصف قرن من الزمن، ارتبطت سلعة النفط بالعامل السياسي، وهو ما أعطاها تلك الخصوصية وألحقت صفة الاستراتيجية بها، حتى توهم البعض أحيانا أنها تتعالى على قانون العرض والطلب.
هذا العامل الجيوسياسي الذي يلعب دورا في رفع الأسعار إلى أعلى يمكن أن يتخذ له مسارا آخر بالنظر إلى إعلان الأسبوع الماضي بين واشنطن وطرابلس الغرب عن عودة العلاقات الديبلوماسية بينهما وإزالة اسم ليبيا من قائمة الدول التي ترعى الإرهاب، الأمر الذي يفتح الباب أمام تطوير لعلاقات البلدين خاصة في جانبها النفطي وتحت مظلة ورعاية ديبلوماسية رسمية.
ليبيا كانت قد أوفت بتعهداتها المختلفة من إغلاق ملف لوكربي بمختلف ترتيباته من إقرار بما حدث إلى التعويضات، ثم بالتخلي عن برنامج لأسلحة الدمار الشامل، وهو ما ردت عليه واشنطن برفع قرار الحظر الاقتصادي الانفرادي، الأمر الذي سمح للشركات الأمريكية بالعودة إلى الساحة الليبية مرة أخرى العام الماضي، وفي وقت ملائم لتجديد الاتفاق مع مجموعة الواحة الذي يضمن لشركات "كونوكو فيليبس"، "ماراثون"، و"أميرادا هيس" وجودا على الأراضي الليبية حتى عام 2034.
صادف قرار الأسبوع الماضي قيام الإكوادور، وهي منتج صغير في أمريكا اللاتينية، بفسخ شراكتها مع "أوكسيدنتال"، وهي خطوة كلفت الأخيرة، التي تعتبر رابع أكبر شركة نفط أمريكية من ناحية الحجم نحو 7 في المائة من احتياطياتها. "أوكسيدنتال" يمكن أن تعوض عن خسارتها تلك في ليبيا. وفي واقع الأمر فان تطورها وعلاقتها الليبية كانت معلما في تاريخ الصناعة النفطية، فهي أول شركة أجنبية تنصاع لرغبة دولة منتجة للنفط برفع قيمة ما تتقاضاه الدولة على البرميل الذي يستخرج من أراضيها.
الخطوة التي تمت في مطلع عقد السبعينيات فتحت الباب أمام مسيرات بصيغ مختلفة من الدول المنتجة لتكمل سيطرتها على الصناعة النفطية في بلدانها، ومن ثم بروز ظاهرة شركات النفط الوطنية على حساب الشركات الأجنبية، بكل ما لدى الأولى من امتياز باحتكار الوصول إلى الاحتياطيات النفطية وحرمان الأخيرة منه.
فما جرى بين ليبيا وواشنطن يفتح الباب بصورة أكبر أمام الشركات الأمريكية للوصول إلى الاحتياطيات الليبية النفطية التي تقدر بنحو 39 مليار برميل، وربما يتم تعديل في صيغ العمل بما يسمح للشركات الأجنبية، خاصة الأمريكية منها، بمعاملة تفضيلية. فالبعد السياسي مهم. وقد تلتقي الرغبة الليبية بتلك الأمريكية في تطوير علاقتهما هذه في بعدها النفطي والاستراتيجي، خاصة وليبيا تحتل موقعا مفصليا فيما يخص الإطلالة على منطقة غرب إفريقيا، التي يراها بعض مخططي السياسة الأمريكية مفتاحا لتقليل اعتماد واشنطن على النفط الشرق أوسطي.
ولليبيا مقولات معروفة عن إدارة ظهرها للعالم العربي. كما أن لليبيا جوارها لتشاد التي تنشط فيها الشركات الأمريكية إنتاجا وتصديرا للنفط، وللسودان، خاصة إقليم دارفور الذي رمت واشنطن خلفه ثقلها الديبلوماسي للتوصل إلى اتفاق سلام يمنع انزلاق ذلك الإقليم إلى بؤرة الفوضى، التي يمكن أن تنسحب إلى مصالحها في تشاد وليبيا.
لكن يبقى السؤال إلى أي مدى يمكن للدفء الجديد في العلاقات الليبية ـ الأمريكية أن يلقي بظلاله على الساحة النفطية، وذلك اقتفاء للأثر الذي أحدثته الخطوة الليبية بإرغام "أوكسيدنتال" على رفع قيمة ما تدفعه إلى الحكومة؟
عودا إلى الجانب السياسي، يلاحظ أن ما تم مع ليبيا يعتبر بصورة أخرى نموذجا آخر على التغيير الذي تنشده واشنطن. وكانت الصورة الفظة لهذا التغيير ما حدث في العراق وفرض تغيير النظام بالقوة، تبع ذلك التغيير شطب العراق من قائمة الدول التي ترعى الإرهاب، بينما تم شطب ليبيا إثر التغيير السلمي في سلوكها، وهي بالمناسبة أول دولة يتم شطبها من القائمة، الأمر الذي يعطي أملا للآخرين أن يلحقوا بها متى ما قاموا بتحسين سلوكهم وفق المعايير الأمريكية.
أحد أهداف الغزوة الأمريكية للعراق التأثير على الساحة النفطية في عدة جبهات على رأسها تخفيض الأسعار، وفتح الباب أمام شركات النفط الأجنبية والأمريكية تحديدا للوصول إلى مناطق الاحتياطيات الكبيرة في منطقة الشرق الأوسط عبر مختلف الصيغ، وإضعاف إن لم يكن إنهاء منظمة القطار المصدرة للنفط (أوبك)، لكن تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن، فها هي الأسعار تحلق في مستويات عليا لم تبلغها من قبل، ولو أن المحللين يهونون من الأمر بالقول إنه إذا أخذ عنصر التضخم في الحسبان فإن الأسعار لا تزال أقل من القمة التي بلغتها عام 1980.
ومن الناحية السياسية، فقد شهدت أمريكا للاتينية، أو ما يعرف بالحديقة الخلفية للولايات المتحدة، انطلاق موجة من التحول إلى اليسار على خلفية العداء لواشنطن وسياساتها، وطالت فيما طالت الصناعة النفطية عبر مختلف الوسائل التي يجري تجريبها في فنزويلا، الإكوادور، وبوليفيا، وكلها تصب في ماعون تقليص الوجود والنفوذ الأمريكي.
ومن هنا تكتسب الخطوة مع ليبيا أهميتها، إذ تسجل هجمة مضادة لما يجري، ويبقى الانتظار لمعرفة كيفية سير المباراة، وأهم من ذلك ختامها.

الأكثر قراءة