مشروع لقرن أمريكي جديد!
في عام 1997 اجتمع رأي مجموعة من السياسيين الأمريكيين المحافظين ومعهم لفيف من الأكاديميين وسماسرة السياسة وبدعم قوي من اليهود الأمريكيين على أن القرن الحادي والعشرين يجب أن يكون قرناً أمريكياً خالصاً، تملي فيه أمريكا إرادتها على الجميع وتقود العالم بما يتفق مع مصالحها وإن أدى ذلك إلى استخدام القوة، بل ويفضل استخدامها لتحقيق نتائج أسرع.
هذا هو ما ذهب إليه المقربون المهيمنون على فكر الرئيس بوش وعلى رأسهم ديك تشيني نائبه ودونالد رامسفيلد وزير دفاعه إلى جانب لويس ليبي مدير مكتب تشيني وبول وولفووتيز الذي كان أحد وكلاء وزارة الدفاع ثم تم نقله ليرأس البنك الدولي (ومنصب مدير البنك الدولي كان يتولاه وزراء من قبل مثل يوجين بلاك وروبرت ماكنمارا، وتولية وولفوتيز يؤكد أهميته ومكانته بين العصبة الحاكمة)، ومعهم زلماي خليل زاد اليهودي الإيراني الأصل وجيب بوش الشقيق الأصغر لجورج بوش والمرشح لخلافته مرشحاً للحزب الجمهوري بعد استنفاد جورج الفترتين الرئاسيتين.
تركز هذه المجموعة على أن هناك هوة بين السياسة الخارجية والمؤسسة العسكرية ممثلة في البنتاجون وهو أمر يشعر هذه المجموعة بالفزع لأن هذا التباعد بين القرار والسلاح لن يمكن الولايات المتحدة من حسم شكل العلاقات الدولية بما يرضيها ويتفق مع مصالحها. وغاية ما يشعر هذه المجموعة بالفزع هو إحجام الأمريكيين عن الدخول في هذا التحدي، الذي سيجعل حياتهم حروباً مستمرة ويزيد العداء تجاههم في أنحاء العالم. ولذلك فإن التحدي الأعظم يبقى: كيف يمكن استقطاب الرأي العام إلى جانب هذه الفكرة؟ وكيف يمكن إقناع الآباء والأمهات بأن أبناءهم سيخوضون حروباً مطولة في بلاد نائية لإقرار الهيمنة الأمريكية تحت حجة "المصالح" الأمريكية.
نشط الإعلام الصهيوني في موازنة المعادلة من خلال إحياء وترويج كتب فوروكاوا وهنتنجتون حول صراع الحضارات ولكن الأهم هو ذلك المنشور أو الكتيب الذي أصدره هنري كوتشي – وهو مفكر أمريكي من أصول إيطالية – عام 1941 ونشرته مجلة "لايف" في قمة العمليات الحربية، التي اشتعلت في أوروبا وقد بدأ لوتشي مقاله في المجلة على النحو التالي:
"نحن الأمريكيين نشعر بالتعاسة، فنحن غير سعداء بأمريكا وغير سعداء بعلاقتنا ببلادنا. إننا نشعر بالعصبية والاكتئاب والاضطهاد". ويستطرد لوتشي على هذا المنوال ثم يطالب الأمريكيين بالبحث عن شيء "يلهمنا حتى نعيش ونعمل ونقاتل بحماس وحيوية" وإذا استجاب الأمريكيون لهذا النداء فإن أمريكا "يمكن أن توجد القرن الأمريكي العظيم".
وهذا الخطاب التحريضي الواضح يعني إعداد الأمريكيين لدخول الحرب وكانت الحرب العالمية الثانية قد اشتعلت منذ 1939 ، وكان الرئيس روزفلت في غاية التردد فيما يتعلق بالمشاركة في القتال ولكن أمرين غيرا تفكيره، الأول: هو إغراق سفينة أمريكية أدخلها تشرشل بدهائه إلى منطقة العمليات في الأطلنطي فضربتها غواصات الجنرال دونتز الألماني. والثاني: الكم الهائل من المقالات التحريضية ضد الألمان، خاصة من جانب اليهود الذين اعتبروا عداء هتلر لهم عداء للبشرية يستوجب حشد العالم لحربه. وهو ما حدث تماماً ودخل روزفلت الحرب خاصة بعد إقدام اليابان على إغراق قطع من الأسطول الأمريكي في بيرل هاربر وعندما نتأمل خطاب لوتشي نجد أنه أفصح عن رأيه بأن الحرب العالمية الثانية ليست آخر الحروب ولكن "هناك حرباً أخرى أكبر، وهي مؤجلة مؤقتاً، فضلاً عن أنها أكبر وأشرس وأطول من الحرب العالمية الثانية وهي حرب وصفها لوتشي بأنها تنادي الأمريكيين وهم يهربون منها. وقال بالحرف الواحد: "إن المحنة الكبرى التي يعاني منها الأمريكيون هي أن بلادهم أصبحت أكبر قوة في القرن العشرين، كما أنها أكثر دول العالم حيوية ومع ذلك لم يتواءم الأمريكيون نفسياً وعملياً مع هذه الحقيقة ولذلك فشلوا في أن يظهروا دورهم كقوة عظمى. مما أدى إلى نتائج كارثية لأنفسهم وللبشرية جمعاء. والحل والعلاج يكمن في قبول التحدي وأداء الواجب بحماس والاقتناع بأهمية فرض الإرادة الأمريكية على العالم باستخدام الوسائل والأساليب كافة ".
كان لوشي ومنذ ما يقرب من خمسة وستين عاماً يناشد أمريكا أن تلعب دورها كإمبراطورية عالمية. وبالفعل لبت أمريكا النداء وبدأت تتصرف بهذا المنطق بعد أن وضعت الحرب أوزارها. والمتابع للسياسة الأمريكية يلاحظ ذلك بوضوح، حتى كان عام 2002 عندما أعلن جورج بوش مقولته الشهيرة "إن الولايات المتحدة تتمتع بقوة عسكرية لا تضاهى ونفوذ اقتصادي وسياسي عظيم".
غير أن التقييم الموضوعي لسير الأحداث يؤكد أن أمريكا لم تنجح في تحقيق هيمنتها على امتداد الأعوام الستين الماضية لوجود الاتحاد السوفييتي من ناحية، ومقاومة ما تبقى من الإمبراطوريات القديمة وهو ما أشعل الحماس لدى المحافظين الجدد الآن لتحقيق سطوة لا تقاوم. وبدأ الحديث عن دور القوات المسلحة الأمريكية في خدمة مخططاتها السياسية والتأثير في الدول الأخرى وزعمائها. وفي الفترة من 1946 إلى سنة 1975 تدخلت الولايات المتحدة بهراوة الضغط وسيف التخويف مائتين وخمس عشرة مرة، كان من بينها حروب فعلية صريحة مثل كوريا وفيتنام وجواتيمالا ونيكاراجوا وكوبا والشرق الأوسط (لنجدة إسرائيل مع الدعم الاستخباراتي والفضائي)، فضلا عن التدخل الخفي لدعم سوهارتو ضد سوكارنو وجورسيل في تركيا ضد مندريس، الذي أتت به صناديق الانتخاب وأيرونزي في نيجيريا ضد أبو بكر تيفاوا باليوا وأنكره ضد نكروما في غانا وتشومبي ضد لومومبا في الكونغو وعشرات التدخلات في أمريكا اللاتينية، إلى جانب التهديد والتخويف والضغوط الاقتصادية والعقوبات الدولية.
وبعد انهيار الاتحاد السوفييتي وأتباعه في شرق أوروبا لم يعد هناك ما يخيف أمريكا، حيث كان لديها الهاجس المرعب من احتمال وقوع مواجهة نووية، فضلاً عن هزيمتها في فيتنام وكوبا والتي عزتها إلى وجود قوى داعمة للدولتين. أما الآن فقد تغيرت اللهجة تماماً وأصبح كل ما يرد من واشنطن هو التهديد للصديق والعدو باستثناء إسرائيل فقط، الأمر الذي جعل لندن تحت قيادة تاتشر وماجور وبلير تؤثر السلامة بالإذعان الكامل والتبعية المطلقة. ولم تقتصر الأمور على التهديد الكلامي بل تجاوز ذلك إلى الحروب الفعلية بقوات أمريكية في بنما ( واقتياد نورويجا رئيسها في القيود الحديدية) وفي أفغانستان والعراق، بينما كان مجرد العبوس والتهديد كافياً لحسم مشاكل عديدة، مع ملاحظة أن الدور الأمريكي ارتبط بالمصلحة الاقتصادية السياسية المباشرة، فلم نجد أمريكا في رواندا وبوروندي وسيراليون والكونغو وأنجولا والصومال رغم التدهور السياسي الكامل بسبب الحروب الأهلية في هذه الدول، وهو ما يؤكد التزام أمريكا الصارم بتحريك قوتها إلى حيث تنهب وتأخذ فقط.
واللافت للنظر أن الولايات المتحدة نجحت في بعض الحالات وفشلت في معظمها وعلى رأسها المغامرة الإيرانية وظهور فضائح الكونترا، كما فشلت في دعم تايوان واحتواء فنزويلا وكوبا وغيرها. ويؤكد تقرير استراتيجي أن نجاح الولايات المتحدة نادراً ما كان شاملاً، وأنه مع اختفاء عدو قوي كالاتحاد السوفييتي، فإن الدول الصغرى مازالت تؤرق واشنطن، وتستنزفها تدريجيا، ومع زيادة حالات التدخل فإن الأمر الذي لا شك فيه هو أن القرن الحادي والعشرين لن يكون أمريكياً بأي حال.