لماذا الخوف من اختلال التوازن الاقتصادي العالمي؟
سرعان ما تتبادر إلى الأذهان قصة الراعي الصغير الذي كان يكرر طلب نجدة أهل قريته لمساعدته في مواجهة ذئب وهمي فلما جاء الذئب فعلا لم يهب أحد لنجدة الصبي فافترس الذئب خرافه. إن هذه القصة نتذكرها عندما نتابع التحذيرات المتكررة من مخاطر اختلال التوازن العالمي التي دأب علي إطلاقها مجموعة الدول الصناعية السبع وصندوق النقد الدولي منذ سنوات عديدة. ولعل الفارق الوحيد بين أحداث القصة وما يجري في الواقع هو أن الذئب الحقيقي لم يظهر بعد
إن العجز الواضح في ميزان المدفوعات الأمريكي ، الذي يمثل رمزا لهذا الاختلال في التوازن الدولي قد تفاقم بشكل كبير منذ التسعينيات حتى بلغ العام الماضي 805 مليارات دولار أي ما يعادل نحو 6.4 في المائة من إجمالي الناتج المحلي ، ومن المتوقع حدوث زيادة أخرى في هذا العجز. فالخوف من هذا العجز في الحساب الجاري لميزان المدفوعات، أي زيادة المستوردات عن الصادرات ، مرتبط بالخوف من أن يكون الأمريكيون يعيشون في مستويات لا تدعمها إمكاناتهم فالأمريكيون يستهلكون ويستثمرون أكثر مما يدخرون. وهم لا يستطيعون ذلك إلا لأن الأجانب يمنحونهم قروضا. أما سؤال: كيف يمكن "تمويل" هذا العجز في الحساب الجاري فهو سؤال مغلوط ، فعندما لا تكون هناك قروض لا يكون هناك عجز يلزم تمويله.
ولكن إلى متى يظل العالم الخارجي على استعداد لمنح الولايات المتحدة الأمريكية مزيدا من الأموال ؟ وهناك من يحذرون من أن العالم الخارجي سيتوقف فجأة عن منح الولايات المتحدة القروض، وأن قيمة الدولار ستنهار، وأن اليورو وعملات أخرى سترتفع قيمتها بسرعة، وأن الاقتصاد العالمي سيهوي إلى حضيض الكساد والركود. فالاحتمالات إذن متعددة ومن الممكن أن تسجل أسعار صرف العملات ارتفاعات كبيرة ، ولكن هل هذا سيناريو محتمل فعلا؟ من المؤكد أن العجز في الحساب الجاري لميزان المدفوعات لا يمكن أن يستمر على هذا المستوى المرتفع في الأجل الطويل. ففي لحظة ما سيرغب المستثمرون الأجانب في تنويع استثماراتهم لأن حصة الدولار في هذه الاستثمارات تبدو كبيرة في ضوء اعتبارات المخاطرة. أما متى وبأية سرعة سيحدث هذا، فلا أحد يعرف على وجه الدقة، لكن هناك من الدلائل ما يشير إلى أن هذا سيحدث آجلا وليس عاجلا.
لقد كان رئيس البنك المركزي الأمريكي السابق ألان جرينسبان محقا في تأكيده أن عولمة أسواق المال لا تحمل معها فقط عجزا في موازين المدفوعات أكبر مما كان متصورا، وإنما يمكن أيضا أن تؤدي إلى تدمير بنى اقتصادية عملاقة. ومن الواضح أيضا أن العجز سيستمر طالما بقيت أمريكا تتمتع بمصداقية في مجال الاستثمار بفضل ارتفاع معدلات النمو والإنتاجية فيها. أما حين يتراجع معدل النمو وينخفض عدد السكان كما في المنطقة الأوروبية واليابان فهناك شكوك كبيرة في تزايد المنافسة.
و لعل ما يدعم تدفق رأس المال الصافي إلى الولايات المتحدة أيضا هو ميل دول مثل الصين وتايوان وكوريا وتايلاند إلى بناء احتياطيات بالدولار. ومما لا شك فيه أن ثمة تفسيرا لذلك، فأولا علمت تجربة الأزمة الآسيوية الحكومات أن تحتاط لنفسها في مواجهة الأزمات ببناء احتياطيات أكبر وبالاستقلال أكثر فأكثر عن صندوق النقد الدولي. وثانيا تلتف الدول النامية والسائرة في طريق النمو على نظمها المالية الأقل تطورا باستثمار مدخراتها في الولايات المتحدة ، وفي هذه الحالة تستفيد الولايات المتحدة من نظامها المالي المتقدم في تقديم الدعم اللازم لهذه التدفقات المالية وفي الحصول على عوائد مما يجعل سداد الديون في الخارج يبدو وكأنه ممكن. ومما يساهم في هذا أيضا حصول الأمريكيين على عوائد من استثماراتهم في الخارج أعلى بكثير من العوائد التي يحصل عليها الأجانب من استثماراتهم في الولايات المتحدة.
أما التفسير الثالث فهو أن دولا مثل الصين تحاول تحقيق النمو الاقتصادي من خلال التصدير بواسطة ربط عملتها بالدولار وخفض سعر صرف هذه العملة. ومهما كان الحكم على مدى جدوى هذه الاستراتيجية بالنسبة للصين في الأجل الطويل فإن الطرفين يستفيدان في الوقت الراهن من هذه الترتيبات ، فحتى لو حدث في المدى القصير تخفيض في قيمة اليوان (عملة الصين) بنسبة 10 في المائة فإن هذا لن يؤدي إلى تخفيض يذكر في عجز ميزان المدفوعات، كما لن يؤدي إلى حماية أماكن العمل: حيث إن البضائع الرخيصة ستأتي في هذه الحالة عبر دول آسيوية أخرى. إن جميع التصريحات الرسمية والخاصة بشأن انحدار الدولار تبين أن هذا الوضع سيستمر طويلا ولن ينتهي فجأة.
ولهذا فإن عجز الحساب الجاري ليس هو أكبر خطر يهدد الاقتصاد العالمي وإنما ردود الفعل الطائشة للسياسات الاقتصادية. إن عجز الحساب الجاري لميزان المدفوعات هو نتيجة لملايين القرارات الفردية التي تتخذ دون وجود هدف رئيسي يمكن أو يجب أن يسترشد به السياسيون. أما مدى خطورة محاولات التنسيق العالمي للسيطرة على الحساب الجاري وأسعار الصرف فيظهر في تجربة اليابان حين استجابت اليابان في نهاية الثمانينات للضغوط الأمريكية فزادت من قوة الطلب في الأسواق الداخلية من خلال التوسع في إصدار النقد وهو ما يجري توجيه نصح مثله لأوروبا في هذه الأيام، وذلك للتخفيف عن أمريكا بصفتها المحرك الرئيسي للطلب في العالم. وكان من نتيجة ذلك انفجار فقاعة الأسعار المحلية الذي لا تزال اليابان تعانيه حتى الآن. فهل الحكومات اليوم أكثر ذكاء؟
إن تذبذب أسعار الصرف بشكل حاد لا يمكن التنبؤ به ولا يمكن التأثير فيه. ولعل الشيء العقلاني الوحيد الذي تستطيع الحكومات عمله إزاء ذلك هو أن تسمح لاقتصادها بمزيد من المرونة ، فبقدر ما تسارع المشروعات والأسر في التكيف مع تغير أسعار الصرف بقدر ما تخف الآلام التي تسببها هذه التذبذبات. أما بالنسبة للولايات المتحدة فلا داعي للقلق ما دامت لم تقع تحت تأثير فرض إجراءات حمائية ومادامت تدع الصين وشأنها. لكن الأمور في المنطقة الأوروبية حيث يكثر التدخل الحكومي تبدو مختلفة. وإذا كان هناك من أثر لحالة اختلال التوازن فإنه يشكل خطرا على أوروبا.