القيادة أسلوب للحكم يعتمد على الإقناع والقدوة وليس على الإكراه

القيادة أسلوب للحكم يعتمد على الإقناع والقدوة وليس على الإكراه

كتاب "الأمير الحديث: ماذا يحتاج القادة أن يعرفوه حاضرا". لمؤلفه كارنيس لورد (275 صفحة، الناشر: جامعة ييل عام 2003م) يستعرض التحديات التي تواجه القيادة في بداية القرن الواحد والعشرين وخصوصا في البلدان الديمقراطية الليبرالية. ويطرح بهذا الصدد عدة تساؤلات ومن أهمها تساؤل رئيسي وهو: ماذا يجب أن يعرفه السياسيون ليقودوا بلدانهم بفاعلية في وقتنا الحاضر؟
إن خلفية الكاتب النظرية (قيامه بترجمة كتاب "السياسة" لأرسطو) والعملية (عمله مستشارا سابقا في مجلس الأمن القومي في عهد الرئيس ريجان وأستاذا في كلية الحرب البحرية) تضيف مصداقية وعمقا لأطروحاته وتشخيصه للواقع واستشرافه لما هو متوقع بشأن مقدرة القادة على التصدي للمسائل الشائكة القائمة في وقتنا الراهن، وفي هذا السبيل يغترف لورد من أفكار رواد النظرية السياسية الكلاسيكية، (أرسطو وميكافيللي على وجه الخصوص) ومرورا بجون لوك وألكسندر هاملتون وإدموند بيرك، وتوكافيل وماكس فيبر، للاستعانة بهم في إلقائه الضوء على متطلبات القيادة حاضرا في سياقاتها الثقافية والوطنية، وخصوصا في الدول الديمقراطية الليبرالية.
وقد احتوى الكتاب على 26 فصلا، تطرقت في موضوعاتها إلى جوانب تهم القائد السياسي الحديث منها: الدولة، النظام السياسي، إدارة النخبة؛ وكذلك الأدوات التي من المفترض أن يستخدمها السياسي كالإدارة والقانــون، والتعليم والثقافة، والاقتصاد، والدبلوماسية، والقوة العسكرية، والاستخبارات، والاتصالات؛ إضافة إلى موضوعات أخرى ذات صلة بالسياسات، والاستراتيجية، والتخطيط، وإدارة الأزمات.

الكتاب موجه موضوعيا للسياسي المعاصر ويشبه شكليا وإلى حد كبير كتاب "الأمير" لميكافيللي والذي يشتمل أيضا على 26 فصلا.
ولأن مواضيع الكتاب مهمة ومترابطة وبعض من التفاصيل جوهري في مقولاته لذا سيأخذ عرضنا لها شكلا سرديا وبالضرورة انتقائيا؛ كما ستتخلله الملاحظات إن وجدت على بعض أطروحاته.
يستهل لورد الكتاب بفصلين عن مدى الحاجة والضرورة للقائد السياسي في عصرنا الحاضر وبهذا الصدد يشدد على أنه من المفترض أن تعتمد الديمقراطية الدستورية على سيادة القانون والمؤسسات الوطيدة وليس الأشخاص من أجل إضفاء سمة التوجيهية Direction على النظام السياسي من ناحية، ومن ناحية أخرى لكبح جناح التجاوزات من خلال عملية تبادلية لآلية مكونة من الضوابط والقوى المؤسسية Checks and Balancing. ويستنتج أن عالمنا المعاصر بحاجة ماسة إلى قيادة فعالة مع أن هذه الحاجة ليست بنفس المستوى للعصور الماضية. ويضرب مثلا على ذلك بأن السنوات الأخيرة من القرن العشرين شهدت منعطفات سياسية واقتصادية لعبت فيها قيادات بارزة دورا تاريخيا مثل: إيزنهاور، ريجان، تاتشر، بوش الأب، البابا جون بول، وهيلموت كول، وياشيرو كنكاسوني، هذا في البلدان الديمقراطية، أما في البلدان الأخرى غير الديمقراطية فهناك أيضا قادة لهم وزنهم التاريخي مثل لينين وماوتس تونغ وهتلر وموسوليني.
وبهذا الصدد يقتطف لورد من ميكافيللي تشخيصا لصعوبة وخطورة موقف القيادة عند تدشين وضع جديد حيث يجابه بعداوة المستفيدين من الوضع القديم، وفتور المستفيدين من الوضع الجديد وشكوكهم في مدى نجاحه، ولقوة ونفوذ أعداء الوضع الجديد.
ويرى الكاتب أن من بعض محاذير السياسيين أنهم يتحولون إلى دوغماويين ويعرف الدوغماوية (الدهمائية، الغوغائية) كفن القوادة السياسية وذلك باستغلال ضعف الآخرين، ويجد أنها قد تمثل تحديا كبيرا لسيادة القانون، كما أن مبدأ سيادة القانون في حالة توتر مع مبدأ السيادة الشعبية في البلدان الديمقراطية، ويجد أن القيادات الديمقراطية التي تتماها مع إرضاء الإرادة الشعبية لا يمكن أن تصبح من أبطال سيادة القانون.
ويطرح لورد فرضية عامة فحواها أنه أينما توجد في أي دولة بنية مؤسسية تعمل بكفاءة واقتدار ولا تتسم بالفساد أو تغلغل نفوذ ذوي الأغراض الشخصية فإنه تقل الحاجة إلى قيادة إدارية قوية. وأنه، كذلك، أينما توجد نخبة وطنية ذات تعليم مرموق وذات صبغة مهنية عالية ومحبذة للمصلحة العامة، ومتحدة في نظرتها السياسية، فإن الحاجة إلى قيادة سياسية لا تصبح ضرورية.
والنقطة الجوهرية التي يدفع بها لورد في هذا السياق هي أن القيادة في أي مجتمع لا يجب النظر إليها كمسؤولية وحيدة لقمة السلطة السياسية أو بالأحرى كوظيفة للحكومة. يرى الكاتب أن النخبة لها دور قيادي لتلعبه، حيث إن التأكيد الأحادي الجانب على قيادة السياسي الفردية لها تكلفتها الباهظة الثمن من خلال التقليل من مساهمة النخبة (فما بالك بالمشرعين المنتخبين) وتقويض شعورهم وحسهم بالمسؤولية السياسية؛ ويستشهد على ذلك بما حصل من الأرستقراطية الفرنسية كنخبة مهمشة في القرن الثامن عشر وما آل إليه النظام السياسي.
ويستعرض لورد رؤيته لما تعنيه القيادة. فالقيادة تعني، بشكل واسع، الحكم، وتتسم بعلاقات المبادرة والاستجابة، وبالسلطة والانقياد، وبالأمر والطاعة، وهذه قواسم مشتركة لجميع المجتمعات في كل التاريخ. ولكن القيادة تعني، أيضا، وبشكل معين، بأنها نوع محدد أو أسلوب للحكم يعتمد على الإقناع والقدوة وليس على الإكراه والقسر أو الأمر. وفي السياسة كما في الأعمال الحرة، فإن القيادة مرتبطة بأشخاص ذوي نشاط وطاقة عالية ويسعون لفرض رؤيتهم على المنظمة ويبادرون أو يشرفون على حصول تغيير لصالح رؤيتهم. ويعتبر لورد القيادة الحقيقية هي تلك المتسمة بالتحولية Transformational التي تسعى جاهدة لإحداث التغيير وتحويل مجرى التاريخ دون الاعتماد على المساومات والتسويات السياسية التي يزاولها القادة السياسيون في أغلب الأوقات، وهنا تحضرني شخصية الملك عبدالعزيز المحنكة والفذة والتي كان لها تأثيرها في إحداث التحول في شبه الجزيرة العربية مما جعله نموذجا واقعيا للقيادة الحقيقية التي أشار إليها مؤلف الكتاب، إلا أني لا أتفق مع الكاتب في إبعاد التحلي بالمقدرة على المساومات والتسويات السياسية من صفات القيادة الحقيقية فقد دلت الشواهد من الأحداث التاريخية على أنها دليل على حنكة ودهاء السياسي التحولي.

4 دوافع

وينتهي لورد في هذا الجزء من كتابه بتقرير الحاجة الماسة والضرورة القصوى للقيادة ويعزو ذلك إلى أربعة دوافع.
الدافع الأول له علاقة بأسباب الرمزية حيث إن السياسيين يمارسون وظائف تتسم بالرمزية العالية ويجسدون عظمة وأبهة الدولة أو وحدة الأمة. والدافع الثاني أن القيادة توفر موقعا أساسيا لعملية اتخاذ القرار المشروع. والدافع الثالث أن القيادة لا غنى عنها ألبتة في الأوقات العصيبة التي تمر فيها بعض المجتمعات. والدافع الرابع أن القيادة ضرورية لغرس المعرفة السياسية في المجال السياسي.
ويتساءل لورد عن جوهر القيادة، داخليا وخارجيا، ويجده في فن الحكم وإدارة شؤون الدولة Statecraft المتسم بالمعرفة المنطقية أو الخبرة ويرفض دور الشخصية الكاريزامية (ساحر الجماهير) كما نظر لها ماكس فيبر حيث ترسخ التوجهات الدوغماوية (الدهمائية، الغوغائية).
وطبقا لفكر لورد فإن فن الحكم وإدارة شؤون الدولة يهتم بالأهداف والوسائل والطرق المحققة لتلك الأهداف. وممارسة القيادة يحتم تكوين رؤية Vision ولكن الأصعب من الرؤية هو الطرق والوسائل لتحقيقها.
ويطرح لورد مقولة إن لب وجوهر فن الحكم وإدارة شؤون الدولة، ومن ثم المعرفة السياسية، يكمن في الحصافة Prudence، ويشرحها بأنها بكل بساطة تعني أن هناك نوعا من الفطنة الفكرية أو العقلية المناسبة جدا لعملية اتخاذ القرار السياسي، حيث إن السياسيين، وبسبب تجاربهم الرفيعة في الشؤون السياسية، يكتسبون وينمون قدرة فكرية تمكنهم من أن يتخذوا قرارات أكثر حصافة وسلامة من الأشخاص الذين يفتقرون إلى تجارب كهذه بالرغم من قدراتهم الفكرية الصرفة أو مخزونهم المعرفي ذي العلاقة. والحصافة السياسية بهذا المعنى هو ما يجب أن يهتم به مجال العلوم السياسية.
ويشير لورد إلى أن التبيان الكلاسيكي لفكرة الحصافة يرجع إلى فكر أرسطو، رائد بدايات فرع المعرفة للعلوم السياسية والتي كانت مقرونة لديه "بالخبرة السياسية" أو "فن الحكم"، إذ لم يكن لديه تمييز بين نظرية السياسة وممارستها. وكانت الحصافة أو بمعنى آخر الحكمة العملية هي شكل وصيغة المعرفة المناسبة للعلوم السياسية.
وتختلف الحصافة جوهريا عن العلم والمعرفة النظرية. إذ هي الملكة العقلية التي نستخدمها عند تطبيق مبادئ عامة في حالات وظروف معينة تتطلب اتخاذ قرار وفعل ما. وهذا يحتاج إلى معرفة عامة ذات نوعية محددة وفهم لظروف لا تتأتى إلا من التجربة؛ وجزء من المعرفة العامة التي تتطلبها الحصافة هي معرفة مبادئ الأخلاق، مما يعني أن الحصافة نوع من الفضيلة وهذا يعني أنه من المهم جدا الإدراك بأن الحصافة تنزع إلى أنها توجد غالبا في أناس ناضجين ذوي تجربة.

أنواع المعرفة

ويتساءل لورد عن أنواع المعرفة العامة التي يحتاج إليها السياسي. وبالرجوع إلى أرسطو يستنتج خمسة مجالات مركزية وهي بلغة اليوم: المالية، السياسة الخارجية، الدفاع، التجارة، والقانون الدستوري (أو التشريع)؛ ويؤكد أهمية معرفة السياسي لدولته والدول الأخرى وكذلك يؤكد قيمة المعرفة التاريخية. وبالاستناد إلى أرسطو يعرّف السياسة بأنها بكل بساطة، هي شؤون دولة المدينة (أو الدولة)، وأن دولة المدينة هذه تشبه الشراكة أو الجمعية التي تهدف إلى الصالح العام لأعضائها، ولكن ما يميز دولة المدينة هو أنها تسعى إلى صالح عام أكبر بكثير من صالح عام ينبع من أشكال تنظيمية أقل من دولة المدينة (أو الدولة) بل ويتضمنها، (مثل العائلة) أنه الصالح العام المطلق Ultimate Good ويتمثل في رفاهة أو سعادة المجتمع.
وطبقا للورد فإن الصالح العام يشمل معاني أخرى عديدة، منها أنه يتطلب من القيادة السياسية فهم وإدراك ما يرتبط بالصالح العام النابع من مستويات أقل من الدولة ولكنها تسهم في تشكيل الصالح العام. ويذكر لورد تشبيه أرسطو للقائد السياسي "بأستاذ البنائين"، Master Builder فهو في الواقع، يشبه المقاول العام إذ ليس من المتوقع منه المعرفة التفصيلية لكل الحرف المطلوبة لبناء المنزل؛ ولكن الحدود الدنيا لمعرفته تتمثل في معرفة كيف ينسق ويوحد ويكمل نشاطات الحرفيين المتخصصين الذين يعملون لديه؛ وفي المقدرة على الحكم والتقويم لمنتوجات هؤلاء الحرفيين من ناحية الجودة ومدى مساهمتهم في نجاح المشروع ككل (أي رفاه أو سعادة المجتمع). والسياسي الصالح، وفقا لمفهوم أرسطو هو الإنسان القادر على التصميم كالمعماري والتفكير العملي؛ وهو من يستخدم الفنون وأنواع الخبرات ويخضعها للصالح العام. لربما معرفة السياسي أقل من معرفة صاحب الخبرة أو الحرفة، لكن من وجهة نظر عملية فإن معرفة السياسي أرقى بكثير، حيث إن الامتحان الأخير للمنزل ليس فقط نوعية المواد والعمل الحرفي، ولكن مدى مناسبة المنزل لاحتياجات الذين ينوون السكن فيه.
ومن بين المجالات الخمسة المذكورة آنفا يركز أرسطو على التشريع لعلاقته الجوهرية بالنظام السياسي حيث إن التشريع هو فن إدارة النظام السياسي ويدخل ضمن نطاق وسيطرة القادة السياسيين. وحيث إن السياسة تتضمن لدى أرسطو المعرفة بما هو عادل وما هو نبيل وكذلك تطبيق القانون في المحكمة، وهذه كلها أشياء لها علاقة وطيدة بالتشريع ومما تجعل التشريع مجالا مهما للقائد السياسي.
ويشير لورد عند هذه النقطة إلى أنه تحت تأثير الليبرالية الحديثة ومصادرها البعيدة كمكيافيللي، فإن الاهتمامات والقضايا الموجهة للعلوم السياسية الأرسطوسية توقفت أن تصبح مركزية لدراسة فن الحكم وإدارة شؤون الدولة.
وخصص لورد فصلا قصيرا عن الدولة يبدأه بالتحذير من دخول أشخاص غير سياسيين معترك التنافس على رئاسة الولايات المتحدة الأمريكية مثل ترشيح البليونير روس بيروه للمنصب، حيث إن المشكلة تكمن في أن أشخاصا مثل روس عرضة لارتكاب أخطاء جسيمة في تعاملهم مع بيئة غير مألوفة وبإقحامهم في مناصب ذات حساسية ومسؤولية عظمى ممكن أن يسبب كوارث قيادية لا تحمد عقباها.
ومن الأشياء المهمة التي على السياسيين والقيادات فهمها بشكل عام معرفة طبيعة الدولة وطبيعة التنظيم الداخلي لها من ناحية شكل النظام والأنواع المتعددة الواقعية والممكنة للدولة. ويشير لورد إلى تنوع الدول من حيث الحجم كبرا وصغرا ومن حيث المستوى الاقتصادي والتكنولوجي تقدما وتخلفا، ويشتمل هذا التنوع على الدول الفاشلة. ويقلل من شأن الميراث الاستعماري في تعثر أو مشاكل الدول النامية، ويؤكد أن أغلب هذه الدول النامية موجودة في مناطق ذات مساحات شاسعة ووعرة التضاريس وذات كثافة ضئيلة مما يشكل تحديا كبيرا وفريدا في محاولة نشر سلطة الدولة وتوطيدها وخلق ديناميكية سياسية ذاتية.
وتجدر الإشارة إلى أنه ربما تصدق مقولة لورد هذه على بعض البلدان ولكني أرى أنه أخطأ في تعميمها على أغلب الدول، والدليل على ذلك في تعميمها كما يفعل حيث إن نموذج بناء الدولة السعودية وما حققه من نجاح رغم المساحة الشاسعة والممتدة الأطراف للدولة يدحض هذا التعميم، وهذا الخطأ يعد غريبا وعلى مستوى كبير من عدم الدقة العلمية خاصة من شخص مثل لورد وهو المتخصص في الاستراتيجية بالكلية البحرية الأمريكية وعمل مثلما أسلفنا مستشارا سابقا في مجلس الأمن القومي الأمريكي ومساعدا لنائب الرئيس لشؤون الأمن القومي في فترة رئاسة بوش الأب.
ويستعرض لورد بشكل مختصر مسار بعض الاندماجات وتفككها مثل الاتحاد السوفياتي سابقا ويوغسلافيا، بالإضافة إلى نموذج الكونفدرالية (ومثله الاتحاد الأوروبي).

التحولات العظيمة

ويختتم الفصل عن الدولة بالإشارة إلى التحولات العظيمة التي تشهدها الدول المتقدمة في مجالي تكنولوجيا المعلومات وتدويل الاقتصاد مما يجعلها تقترب من حالة "الدول الواقعية" Virtual States، وتتسم هذه الدول الأخيرة بأن قوتها تقاس برأسمالها البشري والمالي والقوة التكنولوجية ولا تقاس كما في الماضي بمعايير الأراضي التابعة للدولة، القوة البشرية، المصادر الطبيعية، الإنتاج الصناعي، والقوة المسلحة.
ولي تعليق على هذا الفصل وهو أن لورد لم يعط موضوع الدولة حقه من الطرح وبما يتناسب عن أهميتها بالنسبة للسياسي والتي أكدها في مستهل الفصل فهناك موضوعات متعددة كان يجب أن يتم استعراضها بعناية أكبر وتحليل مردوداتها مثل التحولات العظيمة التي تشهدها البشرية وتأثيرها في طبيعة الدولة الداخلية والخارجية وكذلك مردوداتها على مفاهيم ومبادئ مهمة مثل السيادة.
وفي فصل عن الأنظمة السياسية يرجع لورد إلى تصنيفات أرسطو الكلاسيكية الصالحة (الملكية والأرستقراطية ودولة المدينة Polity) ومقابلاتها الطالحة (الطغيانية والألوجاركية، والديمقراطية) والتي تعكس الحكم الفردي، حكم النخبة، والحكم الشعبي. ويمكن النظر إلى كل نوع من الأنظمة السياسية الثلاث بشكل ضيق أو واسع من ناحية مدى استبداده واضطهاديته أو خضوعه للقانون والنظام، أو من ناحية انحيازه أو تسامحه المعقول؛ ويضيف لورد أنه كذلك يختلف نوع النظام من ناحية أيّ من المصالح الاقتصادية أو الاجتماعية المحددة؛ تهيمن عليه، ومن هذه الناحية الأخيرة وخلافا لماركس فإن أرسطو لا يفترض أن التنافس بين المجموعات الاقتصادية – الاجتماعية المتنوعة يؤدي بالضرورة إلى حصول فريق على كل شيء أولا شيء بتاتا، بل يعتقد أن المنافسة ممكن أن ينتج عنها تسوية سياسية ترضي نوعا ما كل المجموعات المتنافسة، ويعتقد لورد أن هذا الطرح هو ما يفكر فيه أرسطو في عدة مواقع من كتابه "السياسة" ويطلق عليه "النظام المختلط".
والنظام المختلط يعبر عن التسوية بين أقوى عنصرين في دول المدن في عصر أرسطو، وهما الشعب والقلة الغنية، مما يعطي لكليهما حصة في المناصب والألقاب والمقامات وفي الوقت نفسه خلق بنية مؤسسية تضمن مشاركتهم السياسية. ومن الطبيعي والمنطقي أن يشير لورد إلى أن هذه التصنيفات للأنظمة السياسية لا يمكن تطبيقها بحذافيرها على عالمنا الحاضر ولكنها تفيد كمرشد للعلوم السياسية عند طرح التساؤل حول أفضل الأنظمة السياسية الممكنة.
ولكن الأهم هو نصحه لرجال الدول بأن يكونوا واعين لنقاط الضعف في أنظمتهم السياسية؛ وأن تكون لديهم نظرة عميقة وطويلة الأمد لمتطلبات الاستقرار السياسي في دولهم وأن يلموا تماما بجوانب التغير الجوهرية لأنظمتهم وطبقا لذلك يتخذون القرارات والأفعال المطلوبة والمناسبة للوضع.
وفي هذا السياق وعلى ضوئه يؤكد لورد على مدرسة أرسطو في العلوم السياسية والتي تتسم بالحرص على طرح قضايا ومواضيع سياسية يمزج فيها العنصران النظري والعملي.
وفي بداية هذا الفصل عن الأنظمة السياسية يخطئ لورد ويصيب في آن واحد، حيث يذكر أن كل الأنظمة الديمقراطية جمهورية ولكن ليس كل الجمهوريات ديمقراطية؛ فالشق الأخير فيما ذكره صحيح ويضرب لورد مثلا على ذلك بجمهورية إيران الإسلامية؛ لكن الشق الأول في رأيي غير صحيح فهناك العديد من الديمقراطيات غير الجمهورية مثل بريطانيا والسويد وإسبانيا؛ وهذا شيء آخر يثير الاستغراب كيف يفوت ذلك على شخص بمؤهلات وخبرات لورد ويقدم على جملة تعميمية جارفة.
وفي فصل عن النخب وكيف يتم إدارتها، يبرر لورد أهمية ذلك، بأن الأنظمة السياسية لا يمكن فهمها بشكل دقيق بدون معرفة النخب التي تسيطر وتعرف هذه الأنظمة في البلدان الديمقراطية.
ويشير لورد إلى أن من أهم سمات السياسة المعاصرة في الولايات المتحدة الأمريكية هو مدى إحلال القضايا الثقافية، بشكل عام، محل الطبقة والمنزلة الاجتماعية كمصدرين للهوية والخلاف السياسي. ويجزم لورد بأن ما يسمى بـ "المسألة الاجتماعية" في العالم الغربي في القرن التاسع عشر قد فرغت من محتواها وسمتها السياسية من خلال ديناميكية الاقتصاد الحديث وانتشار منافعه وفوائده على فئات اجتماعية واسعة تحت القيادة الخيرة لدولة الرفاه الليبرالية. ويؤكد لورد نظرة توكفيل في الثلث الأول من القرن التاسع عشر على أن المجتمع الأمريكي يعيش "حالة مساواة" وأنها من سمات الواقع الأمريكي الحاضر بشكل جوهري بل وأكثر من السابق. وطبقا لوجهة نظر واسعة الانتشار فإن أمريكا شهدت إحلال نخبة جديدة تشكلت من خلال الجدارة وحلت محل النخبة القديمة (ذات أصول أنجلوساكسونية وبروتستانت). والنخبة الجديدة تشتغل بما يمت بصلة إلى المعلومات والفكر بدلا من المهن التقليدية المولدة للثروات.
بشكل أو آخر يستنتج القارئ أن لورد يحذر من مخاطر نخبة مشكلة بشكل نقي على أساس الجدارة والذي انبثق منها في حالة الاتحاد السوفياتي حكم المثقفين Ideocratic Soviet System ويشكك في مناعة العالم الغربي المعاصر من تطور فئة ونظام بهذا الشكل. بل ويقول لورد صراحة إنها أخلاقيات نظام مبني على الجدارة Meritocracy ينزع نحو فردية مفرطة في التطرف مما يسبب تآكل تقاليد الأخلاق والخدمة العامة ويهدد بتحطيم التماسك والتضامن للمجتمع الديمقراطي. وهنا يصل إلى طرح التساؤلات حول: هل النخب واقعيا ضرورة؟ هل من الممكن وجود قيادة سياسية بدون نخب سياسية؟ وبتشاؤم واضح يجيب لورد أن دروس التاريخ، وخصوصا الحديث منها مثل الثورة الثقافية في الصين، تنبئ بأن قيادة سياسية بهذا الشكل تعتبر وصفة للطغيان.
ويستعرض لورد جانبا آخر بالنسبة للنخبة بتساؤله حول الحاجة الإنسانية إلى التميز Distinction. فبينما يعتقد أن الدول المتقدمة الديمقراطية كانت واعدة وأرضت الاحتياجات إلى الحرية والأمن والرفاه والكرامة والمساواة في الحقوق، إلا أنه وبالموافقة مع توكوفيل في نظرته إلى أن الطموح في العصور الديمقراطية يتسم بأنه مفرط إلى درجة غير سوية وأكثر بكثير في ظل الأنظمة الارستقراطية سابقا. عندما لا يعرف الإنسان موقعه فكل شيء عرضة للانتزاع والاختطاف. ويجد لورد أنه من المطمئن تصور أن الحافز للنجاح في المجتمع الديمقراطي ممكن إرضاؤه من خلال المجالات الأهلية الخاصة حيث تقوم نشاطات مثل الأعمال الحرة، والرياضة بجميع أنواعها، وصناعة الترفيه والتسلية، والعالم الثقافي، كلها سبل ووسائل تساعد وتسهل للفرد تحقيق نوع من التميز بعيدا عن السياسة؛ لكن هذا لا يغني ألبتة عن الاعتراف المجتمعي والتقدير للإنجازات الشخصية في المجالات العامة؛ ولفئة قليلة الإرضاء لا يتم إلا عن طريق المجال السياسي نفسه، أو بعبارة أخرى وبكل صراحة يؤكد لورد أن إرضاء الطموح إلى التميز لا يأتي إلا من خلال حكم الآخرين In ruling others. ويضيف أنه لا يمكن تصور اختفاء النخب حتى في ظل مجتمع كامل الوفرة، وذلك عكس تصور ماركس، حيث إن المنزلة الاجتماعية، والوجاهة، والاعتراف المجتمعي والتقدير، والشرف honor، هي دوافع ومحفزات ليس من الممكن محوها أو شطبها من روح الإنسان مهما حاولت ثقافة المساواة أن تغطي عليها.

النخب السياسي

ومع التسليم بضرورة وجود النخب يتساءل لورد هل وجود النخب مؤذ وضار، هل هو شيء سيئ للمجتمع ؟ ويجيب لورد بـ "نعم" على هذا التساؤل مستندا إلى ما ينتشر في الثقافة الشعبية الأمريكية وفي بعض أنماط الفكر الأكاديمي في العالم الغربي؛ حيث يسود الاعتقاد الراسخ أن ذوي المناصب العليا في أي مجتمع بالضرورة لا يهتمون إلا بالمحافظة على سلطتهم ولا يميلون إلى فائدة ومنفعة المجتمع ككل وهذا يتماها مع تعاليم ماركس. ويشير لورد إلى أنه في الواقع ميكافيللي هو الذي دفع بهذه المقولة ويقتطف منه التدليل على ذلك من كتاب "الأمير" بما معناه أن كل مدينة تتشكل من مزيج ذي عنصرين مختلفين نابعين من واقع أن الناس لا يرغبون أن يؤمروا أو يقمعوا من قبل العظماء، والعظماء بدورهم يرغبون أن يأمروا ويضطهدوا الناس. يعتقد لورد أن ميكافيللي هنا بشكل ضمني، يرفض التمييز الحاسم الذي يرسمه أرسطو بين الأنظمة السياسية بحيث إن القليلين يحكمون لما هو في مصالحهم وأولئك الذين يحكمون لما هو في الصالح العام. ويتساءل هنا لورد فيما إذا كانت النخب متشابهة إلى هذا الحد؟ ويجيب بالنفي، ويرى أن النخب تختلف بشكل كبير من حيث المكان والزمان وعبر الأمم والثقافات مستشهدا، كمثال، بالاختلافات بين النخبة النازية ونخبة طبقة النبلاء البريطانية ونخب الأعمال الحرة الأمريكية. ويكرر لورد مقولة سابقة له في الكتاب حول أن تاريخ البشرية ليس فقط وببساطة تاريخ للصراع الطبقي حيث يرى أنه أيضا تاريخ المساومات، والتسويات، والتعاون بين الطبقات. فالنخب قد تظلم وتضطهد، وأيضا قد تبرهن على بعد نظر وعلى تضحيات بالنفس بطولية وتوفر إدارة للشؤون العامة على مستوى عال من الكفاءة والأمانة.
وأيضا المخيال تخيل القائم عن النخب في العقل المعاصر يشوبه التشويه من قبل المفاهيم المغلوطة والسيئة طبقا للورد. ومن هذه المفاهيم النظر إلى النخب في كل مجتمع كوحدة واحدة من الناحية الثقافية ومن ناحية التجانس الاجتماعي وأن النخب متحدة في اشتراكها في مجموعة من المصالح المادية بل وفي حماية امتيازاتها وبشكل تآمري فاعل وفعال كما في الكتاب المؤثر للسسيولوجي الأمريكي المشهور سي رايت ميللز المعنون "النخبة السلطوية" The Power Elite. عن النخب الأمريكية. ويعتقد لورد أنه لربما كان هذا صحيحا لحد ما في بعض الأوقات والأماكن ولكن يستبعد حدوثه في حالة البلدان الديمقراطية المتقدمة بسبب وضعها الاجتماعي المتسم بالاختلاف والتمييز من حيث الشكل والوظائف الاجتماعية بشكل كبيرHighly Differentiated Societies . ومفهوم مغلوط آخر عندما لا يرى اليسار نخبته أي أن النخبة ذات الجدارة تميل إلى ألا ترى نفسها أي تخفي نفسها عن نفسها.
فإذا كان وجود النخب السياسية محتوما ولا مفر منه ولا غنى عنه ولكن أيضا خطر فيصبح السؤال كيف يتم إدارتهم بفاعلية. يجيب لورد عن سؤاله بتبيان عدة أساليب لإدارة النخب وهي إما أن تكون النخب مكبوحة بوسائل مؤسسية، أو يقولبون بالتعليم. ومن الأمثلة على الأسلوب الأول الانتخابات العامة وسيادة القانون؛ ولكن أنظمة سياسية عديدة ومنها الولايات المتحدة الأمريكية تعتمد على الأسلوب الثاني وكمثال له وجود آليات دستورية متنوعة من الضبط والسلطات المؤسسية أو Diffuse elite power.
يعتقد لورد أن ميكافيللي ينصح الأمير في زمانه وظروف عصره باتباع الأسلوب الأول "الوسائل المؤسسية"، ويرجع لورد إلى مقتطف طويل من ميكافيللي جوهره أن النخب ممكن إدارتها بفعالية فقط من قبل أمراء لا يعتمدون على (أو يستغنون عن) النخب لبقائهم في السلطة السياسية. فالنخب، بالنسبة لميكافيللي، بشكل عام، أكثر خطورة على صالح القيادات السياسية من الشعب عموما. لذا فاستراتيجية القيادة يجب أن تكون التقرب إلى الشعب بشكل ملموس وفي الوقت نفسه توظيف النخب في المهام الحكومية بطرق تقلل من أي تهديد محتمل من قبل النخب لأسس السلطة الملكية. ويؤكد لورد أن هذا الطرح الماكيافيللي لا يخرج عن الشكل الأصلي لفكرة سلطة الإدارة Executive Power الممارسة في الديمقراطيات الدستورية الحديثة.
هذا الفصل عن النخب وكيفية إدارتهم أجده من أفضل فصول الكتاب عمقا، كما ونوعا، من خلال الأسئلة العديدة والتفاصيل المهمة التي يستعرضها الكاتب. لكن لدي إحساس بأن هناك شيئا من الخلط والغموض بالنسبة لتراتيبية النخب في المجتمعات، إذ لم أشعر أنه منهجيا ونظريا منتظم ومتسق في التمييز بين النخبة الحاكمة والنخب الأخرى. ويبادر إلى ذهني تصنيف مبدئي وبسيط وقد يسهّل التناول منهجيا ونظريا للنخب وذلك بتمييز النخبة الحاكمة عن النخب الداعمة؛ وهذه الأخيرة تتشكل من الفئات الاجتماعية التي تخدم في المجالات الأيديولوجية والترفيهية والثقافية والإدارة العامة والأهلية، وكذلك النظر إلى التفاوتات من ناحية النفوذ والملكية أو المؤهل داخل كل نخبة. ويصبح السؤال هو حول التعامل مع النخبة الداعمة أو بعض فئاتها أو التعامل مع بعض أطراف النخبة الحاكمة عندما يتصاعد طموح أي منها السياسي.

الأكثر قراءة