سوق المال .. وصورة طبق الأصل!
كم هي القرارات والتوصيات التي تصدرها المجامع الفقهية الموقرة, والتي يوقع عليها عدد كبير من علمائنا الأفاضل من شتى البلاد الإسلامية, ويشارك فيها العديد من الباحثين, والخبراء في التخصصات المختلفة, ومع هذا كله يطويها النسيان, وتحفظ في ملف الحفظ, ويوقع عليها بلسان الحال بالعبارة المألوفة: "للحفظ مع التحية!!" ثم توضع في الرف السيئ الصيت! فتذهب كثير من تلك القرارات والتوصيات أدراج الرياح, وكأن شيئاً لم يكن!
وهذا التجاهل من الجهات ذات الاختصاص هو في الحقيقة خطيئة من الخطايا, وهو إن كان صغيرة من الصغائر, فإنه مع الإصرار يصبح كبيرة, ويعكس حجم اللامبالاة تجاه ما تتخذه تلك المجامع العلمية من قرارات, وربما لو كانت في بلاد غربية لكان لها شأن آخر.
ومن تلك القرارات التي طواها النسيان: القرار الصادر من مجمع الفقه الإسلامي بشأن الأسواق المالية, رقم (59), وتاريخ (17-23 /8 /1410هـ) في البند الثاني منه, ونصه: (إن هذه الأسواق المالية- مع الحاجة إلى أصل فكرتها- هي في حالتها الراهنة ليست النموذج المحقق لأهداف تنمية المال واستثماره من الوجهة الإسلامية. وهذا الوضع يتطلب بذل جهود علمية مشتركة من الفقهاء والاقتصاديين لمراجعة ما تقوم عليه من أنظمة, وما تعتمده من آليات وأدوات, وتعديل ما ينبغي تعديله في ضوء مقررات الشريعة الإسلامية) أهـ. وقبل ذلك أوصى مجمع الفقه الإسلامي في قراره رقم (38) وتاريخ (18-23/6/1408هـ) بعدة توصيات, منها:( إقامة اقتصاد إسلامي, لا شرقي ولا غربي, بل اقتصاد إسلامي خالص, مع إقامة سوق إسلامية مشتركة ....) أهـ.
لقد أدرك علماؤنا الأفاضل أن أسواقنا المالية لا تفي بمتطلباتنا, ولا تتفق مع قيمنا الإسلامية؛ لأنها في أصلها نموذج غربي قائم على مفهوم الربا والقمار, ولهذا لا يصح أن نقوم بعملية استنساخ لذلك النموذج الغربي, دون إعادة هيكلته, وتعديل أنظمته بما يتفق مع شريعتنا الغراء, والمشكلة أنـنا نحن العرب والمسلـمين قد تعودنا عدم الخـروج عن مسار ونمط الأجنبي, حتى أصبحنا صـورة طبق الأصل له في كثـير من سلوكنا
-1-
وتعامـلاتنا, ولو كان ذاك الأجنبي لا يتفق مع مبادئنا وقيمنا, ولهذا صدق فينا قول نبينا صلى الله عليه وسلم: "حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه!" وما أضيق جحر الضب, وما أوحشه وأوعر مسالكه!!
ومتى يأتي اليوم الذي نؤمن فيه بثرواتنا ومقدراتنا, بل وبعقولنا, حتى نكف عن مد يد السؤال, فلا (نشحذ) من غيرنا النظم المالية والاقتصادية, كما (نشحذ) منهم الخردوات, وأدوات الزينة!
ولم لا نعيد النظر في واقع أسواقنا, ونرجع البصر كرتين في أنظمتها وقوانينها, فنعيد صيـاغتها بما يزيل عنها المشتبهات من المكاسب, وبما يحصنها من وقوع مثل هذه الانهيارات المالية التي عصفت باقتصادنا, وبمدخرات من هم من جلدتنا, والتي سرعان ما تلاشت في أيام, وربما في ساعات, حتى رجع أكثر من مليوني مواطن بخفي حنين.
وكم هي الأسواق التي انهارت بين عشية وضحاها في طول العالم وعرضه, وأبلغ شاهد على هذا, ما وقع في الأسواق المالية لدول النمور الآسيوية, حيث أدى حمى المضاربات إلى انهيار البورصة, وقد تولى كبرها الملياردير جورج سورس, الذي قام بعملية بيع جمـاعي لاستثماراته مما ترتب عليه انخفاض حاد في قيمة الأصول, ثم عاد واشترى في اليوم التالي بالسعر المنخفض, فتحسنت الأسعار, ثم قام بعملية بيع أخـرى, مما ترتب عليه تأكيد الانهيار, حتى قال رئيس وزراء ماليزيا مقولته الشهيرة: "أصبحنا فقراء بفعل المضاربة في العملات, أخذت منا ما يقارب 60 في المائة من ثروتنا الوطنية!" وهكذا سائر أسواق الأسهم والمال, يكون مصيرها, بل ومصير اقتصاد الدولة أحياناً, مرهـوناً بنظام لا يدعم الاستثمار بقدر ما يزيد من حمى المضاربات الآثمة التي يمارسها مصاصو الأموال والدماء, ممن يملكون الأموال الطائلة, ويفتـقدون أدنى مقومات الأخلاق الفاضلة, وقد شهد شاهد من أهلها, حين صرح مدير الصندوق الدولي عقب أزمة سوق المكسيك عام (1995م) فقال وهو يعالج هذه الأزمة:" العالم في قبضة هؤلاء الصبيان" مشيراً إلى المضاربين, وذكر أنهم صبيان لصغر سنهم في الغالب! وهذا هو عين ما وقع في سوقنا المحلية, حيث أصبحت السوق في قبضة أصحاب الأموال الطائلة, والضحية مليونان أو أكثر ! فهل يوثق بسوق يتحكم فيها أفراد, ويكون الضحايا فيها بالملايين؟! وهل يقر شرعنا الحنيف الذي جاء بدرء المفاسد الراجحة وبسد الذرائع مثل هذا النوع من الأسواق الذي أثبت الواقع أنها لا تستطيع السيطرة على مجموعة من التعاملات المحرمة, كبيع الغرر, والنجش, وغيرهما؟
-2-
وإذا كانت شريعتنا الإسلامية السمحة قد منعت بعض البيوع التي لا يطول ضررها إلا شخص البائع أو المشتري فقط, كبيع حبل الحبلة, وبيع الحمل في البطن, واللبن في الضرع, وبيع ما لا يقدر على تسليمه، كالآبق والشارد, وبيع الرجل على بيع أخيه, والسوم على سومه, إذا كانت هذه البيوع ونحوها قد حرمها الشارع, ومنع منها, مع أن أثرها لا يتعدى شخص البائع أو المشتري, فما الظن إذاً بسوق يعصف بالملايين في غمضة عين, ولهذا ينبغي أن تفعّـل قرارات المجامع العلمية بإنشاء سوق لا يتحكم فيها أفراد, ويكون الهدف منها دعم الاستثمار والاقتصاد على مستوى الفرد والدولة, ووضع الضمانات الكافية لمنع أسلوب حمى المضاربات التي ما إن تطل برأسها في سوق ما إلا ويكون نذيراً بانهيارها, وأن يؤخذ ببعض المقترحات التي من شأنها أن تدفع الشركات نحو الاستثمار, لا أن تدفعها باتجاه المضاربات التي لا تسمن ولا تغني من جوع, ومن تلك المقترحـات الجديرة بالنظر, والتي ذكرها أحد خبراء الاقتصاد "في مجلة اقتصاديات في عددها الرابع والعشرين" وهي كفيلة- بإذن الله - بتنشيط الاستثمار, وعلاج حمى المضاربات:
أن يتم تحـديد سعر السهم على أساس القيمة الدفترية للسهم مضافاً إليها نسبة مئوية على القيمة الدفترية للسهم, وتحدد هذه النسبة وفقاً لمؤشرات ربحية الشركة في الماضي والحاضر, وتتغير هذه النسبة كل أربعة أشهـر, وفقاً للبيانات والمعلومات عن الشركة نفسها وعن القطاع الاقتصادي الذي تنتمي إليه هذه الشركة, وتتولى هيئة السوق المالية تحديد هذه النسبة.
أن يتم تحديد مدة زمنية بين حركة البيع والشراء, بحيث يمنع بيع السهم إلا بعد مرور هذه الفترة لمنع "حمى" المضاربة في الأسهم, ومن أجل العمل على استقرار السوق المالية.
وبهذه المقترحات ونحوها, تسعى جميع الشركات المساهمة إلى تفعيل استثماراتها ودفعها نحو الأمام, ونقطع الطريق على العبث بالأموال في مضاربات وهمية تدفع بالناس نحو الانهيار والإفلاس.