عودة المركنتلية
عودة المركنتلية
في كانون الأول (ديسمبر) الماضي استقبل أحد مسؤولي مجلس الأمن القومي الأمريكي مسؤولا صينيا، حيث دار الحديث بينهما حول علاقات الصين الخارجية بدول تعتبرها واشنطن "مارقة". رد المسؤول الصيني أنهم يحصرون علاقاتهم عادة في الميدان التجاري للحصول على الموارد الطبيعية من تلك الدول، خاصة النفطية منها، وزيادة الصادرات الصينية إليها، وبالتالي فهم لا يهمهم السياسات الداخلية أو الخارجية التي تتخذها تلك الدول.
وكان أن رد المسؤول الأمريكي بوصفه لتلك السياسة بالمركنتلية، الأمر الذي أصاب المترجم الصيني بشىء من الحيرة في سعيه لتقديم ترجمة دقيقة للتعبير، الذي يعود إلى مرحلة النمو الرأسمالي بين القرنين السادس عشر والثامن عشر، الذي كان يمثل الوجه الاقتصادي للدولة القومية. التعبير أثار نقاشا واسعا حول المعنى المقصود حقيقة، وأهم من هذا اذا كان هذا الوصف أمرا محمودا أو مذموما!
الأسبوع الماضي شهد قيام الرئيس الصيني هيو جنتاو بأول زيارة له إلى الولايات المتحدة بعد تسلمه السلطة كاملة، والزيارة مهمة له لتثبيت دوره ومحازبيه داخل أجهزة الدولة والحزب. وعلى غير زيارة الرئيس جورج بوش إلى الصين أواخر العام الماضي، حيث لم يحظ موضوع الطاقة بنقاش يذكر، فإن الوضع اختلف هذه المرة، إذ إن موضوع أسعار النفط أصبحت قضية عامة مع تجاوز خام ويست تكساس حاجز 70 دولارا للبرميل ودفع المستهلكين نحو ثلاثة دولارات للجالون.
ويسعى الأمريكيون إلى اقناع الصين إلى وجود مصالح مشتركة بين الطرفين تحتم تعاونهما في المجال النفطي، وهي محاولات مستمرة على مختلف المستويات الحكومية، آخرها ما أثاره نائب وزيرة الخارجية روبرت زوليك، لكن الجديد هذه المرة إثارة الموضوع على المستوى الرئاسي.
ويلفت النظر في هذا الجانب تحديدا أن الولايات المتحدة تسعى إلى تشجيع الصين للعب دور أكبر وأكثر إيجابية بالمفهوم الأمريكي لثقلها الدولي. والإشارة طبعا إلى مناطق نزاع عديدة من إيران إلى السودان وبورما وغيرها، على أساس أن استمرار التوترات يؤثر في الصين وفي فاتورتها النفطية التي يتصاعد حجمها باطراد.
المثير في هذا كله أن واشنطن تسعى جهدها لتدفع بكين إلى التحرك بفعالية أكبر على الساحة الدولية بينما قضت 50 عاما في مسعى لإجهاض الجهود السوفياتية للقيام بالدور ذاته. الأمل الأمريكي أن تتحرك الصين وفق خطوط عريضة لتفاهمات مع واشنطن، وليس من خلال أجندتها الخاصة بها. وهو ما يبدو عصيا على التحقيق على أي حال في الواقع السياسي. لكن عموما فإن مجرد المسعى الأمريكي يعني رسالة واضحة أن القوى العظمى الوحيدة في العالم بدأت تستشعر ثقل عبء التفرد قطبية واحدة، وتريد عون الآخرين.
الصينيون من جانبهم راق لهم الطرح الأمريكي الذي يضعهم في مرتبة عالية مقاربة لتلك التي تحتلها الولايات المتحدة، وربما يودون التصرف على هذا الأساس والتحرك بصورة أكثر ثقة، خاصة وهم يعلمون مدى تأثيرهم الاقتصادي حتى داخل الولايات المتحدة.
ففي دراسة لمورجان ستانلي عن عام 2004، أوضحت أن السلع الصينية رخيصة الثمن المباعة داخل الولايات المتحدة وفرت على المستهلك الأمريكي نحو 100 مليار دولار مما لو كان اشترى السلع نفسها من منتجين أمريكان أو أوربيين، كما أن التبادل التجاري بين البلدين، رغم أنه يميل إلى صالح الصين التي تصدر للولايات المتحدة ستة أضعاف ما تستورده منها، إلا أنه وفّر أربعة ملايين فرصة عمل داخل الولايات المتحدة نفسها.
يبقى الأمر الأساسي وهو تصاعد الطلب الصيني على النفط، وهو الذي قدرت إدارة معلومات الطاقة الأمريكية أنه قد يبلغ 14.2 مليون برميل يوميا عام 2025، على بكين تأمين ثلثيها من الخارج. مع ملاحظة أن الولايات المتحدة تستهلك في الوقت الحالي 20 مليون برميل يوميا، 60 في المائة منها تأتي من مصادر أجنبية. ومعروف أن الصين احتلت مكانة اليابان قبل عامين كثاني مستهلك للنفط في العالم بعد الاقتصاد الأمريكي.
هذه التطورات هي التي دفعت الإدارة الأمريكية إلى النظر في انعكاسات هذا التطور مستقبلا على علاقاتها بالصين وعلاقة الآخرين كذلك، والخوف من حدوث تسابق لتأمين الامدادات النفطية. ومن الاقتراحات التي تم تداولها إمكانية القيام بدراسة مشتركة أمريكية - صينية لقضايا الطاقة بين البلدين وكيفية تجنب احتمالات المواجهة والصدام بينهما أو مع آخرين.
كيفية المضي قدما في هذا الاقتراح وتحويله إلى الجانب التنفيذي سيكون هو الفيصل، وأهم من ذلك الإطار السياسي الذي يتم فيه. لكن هناك أطرافا أخرى لا بد من وضعها في الاعتبار إذا أريد لمثل هذه الدراسة أن تنجز شيئا فعليا. والإشارة إلى جانب المنتجين الذين يحتاج إليهم مثل هذا الحوار وأن يكون مقعدهم على الطاولة ذاتها، فقضايا مثل تأمين الإمدادات بكل ما تتطلبه من استثمارات وتقنية تحتاج إلى وجود الدول ذات الاحتياطيات، إلا إذا أرادت واشنطن العودة إلى مرحلة المركنتلية التي استنكرتها على الصين.
<p><a href="mailto:[email protected]">asidahmed@hotmail.com</a></p>