إعادة تدوير اللُّغة وتصنيعها
لوالدي حس عالٍ أمام اللّغة ، لا تمر عليه مفردة من الكلام المحكي بأي لهجة كانت إلا وحاول أن يعيدها لجذرها العربي ، لعله يجدر بي أن أعترف بأن قدرته هذه ما زالت تدهشني كل مرة وكأنها المرة الأولى! و مما رواه والدي حفظه الله، وأبقاه لي: تفسير قولهم: "جابته المويه" جوابَ من سُئل : من أين لك هذا؟
وقد ذهب هذا الجواب مثلاً بين الناس، بالرغم من خصوصية كلمة "مويه" عند أهالي منطقة الخليج الذين يلفظون صوت الجيم ياءً فيقولون يوم "اليمعه" بمعنى الجمعة، و"مويه" التي هي "موجة"، وقد لاحظ الدكتور عبد العزيز مطر في دراسة له عن اللهجة البحرينية أن المفردات الطارئة على المجتمع البحريني وليست في موروثه مثل: الجامعة، بقيت على أصلها فلا يقولون اليامعه، بل الجامعة.
وإذا أعدنا جملة "جابته المويه" للنطق العربي الفصيح، نقول: "جاءت به الموجة" ويراد من جواب كهذا التهرب من فضول السائل، فكأن أمواج البحر ألقت بهذا الشيء على الشاطئ.
هذا ما قاله والدي، أمّا ما أظنه أنا بناءً على ما تقدم فهو أن كلمة "مويه" التي تعني "ماء" عند أهل الحجاز وأغلب أهل نجد وسمعتها على لسان إخواننا في السودان أيضًا، وقد كنت أظنها من بقايا الإبدال التي ما زالت متداولة في اللّهجات العربية وشقيقاتها من الساميات الحديثة، ففي الخليج تتحرك المفردة "ماء" بين "ماي" لأن الهمزة في ماء مبدلة عن الياء، و"مويه" بواو ممالة عن الألف، أو ربما هي مأخوذة من "مويه/موجة" وما يدعم هذا التصور هو تفسير والدي نفسه لانتقال المثل "جابته المويه" من منطقة الخليج لمنطقة نجد. يحكي والدي أن أهل نجد كانوا يشاركون في رحلات الغوص التي اشتهر بها أهل الخليج قبل زمن النفط للبحث عن اللؤلؤ، وأن النجدي كان يسمع من الغواصين تحذيرات كثيرة عن اقتراب "مويه/موجة" فانتقلت الكلمة بدلالة أوسع لتعبر عن الماء وليس فقط عن موجة، ربما نتيجة سوء فهم أو تسمية للكل باسم الجزء على اعتبار أن الموجة جزء من ماء البحر.
وهذا يذكرني باسم مرفت الذي يعني مروة عند الأتراك فهم ينطقون الواو بصوت يشبه الفاء، وينطقون التاء المربوطة التي تلفظ عند الوقف هاءً ينطقونها دائمًا بطريقة التاء المفتوحة حتى عند الوقف، ومع انتشار اسم مرفت ومروة في كثير من البلدان العربية لا يكاد يعرف أحد أن مرفت ليست إلا مروة!
أما كلمة "كويس" وهي ترادف جيد وطيب وجميل وحسن، فربما هي تصغير "كيّس" من الكياسة والرزانة والعقل، كما أني أتفق مع ما ذهب إليه الدكتور عبد العزيز مطر فيما يتعلق بكلمة "اللي" كونها اسمًا موصولاً لم يدون في كتب العرب، فليس من الصدفة أن تستعمل هذه الكلمة باتفاق بين كامل الأقاليم العربية اليوم، فلابد أنها قديمة وهي في واقعها أغنت عن كامل باب الأسماء الموصولة فهي تستعمل للمفرد والجمع، للمذكر والمؤنث، للعاقل ولغيره، وهذا يعني أننا مازلنا نتكلم العربية، وليس كما يصنف البعض اللُّغة لمستويات كثيرة منها الفصيح والعامي، فكما ترى بعض العامي فصيحا إن فتحنا له عقولنا وصدورنا معًا.
ما الهدف من هذا المقال؟
أمنية: ليتنا نتمتع بمرونة والدي وحسه اللغوي، ونتخلص من تزمتنا وافتعالنا لإشكالات لغوية تجاوزها الناس منذ زمن على اعتبار أننا نحفظ اللغة العربية الفصحى بل ونمعن في الغرور فندعي أن قوله تعالى "إنا أنزلنا الذكر وإنا له لحافظون" يعني أن القرآن محفوظ بعلوم اللغة العربية، بينما الحقيقة التاريخية تقول أننا ابتكرنا علوم اللغة العربية من دراسة أعظم نص عرفته البشرية "القرآن الكريم".
أليس الغرور أول ذنب عصى إبليس به الله في الجنة! القرآن محفوظ أصلاً ولا يحتاج الله إلينا لتنفيذ وعده.
أقول هذا لعلنا ندرك السرعة التي تعاد فيها تدوير اللغة حتى لا نفتش عن موقعنا فلا نجده كالعادة، بعض الأمثلة السابقة نتجت عن اتصال البشر فيما بينهم اتصالاً طفيفًا وبطيئًا فكيف بسرعة الاتصال الذي يحدث في أيامنا هذه عبر الإنترنت حيث تتمازج لغات العالم بسرعة لم تحدث في التاريخ. آخر إحصائية تقول إن مستخدمي الإنترنت تجاوزوا 350 مليون نسمة من 75 دولة حول العالم، وهؤلاء يخترعون مئات الكلمات الجديدة كل يوم، فربما سيصنعون لغة موحدة لشعوب العالم يومًا ما، مثلما حدث مع اللغة الأردية الحديثة التي تكونت من مزيج فريد: شيء من العربية وبعض من الفارسية وتركيبة أخرى من خمس لغات لقبائل هندية متفرقة.
وإذا علمنا أن المواقع التي تتبنى اللغة العربية على شبكة الإنترنت لا تتجاوز 1 في المائة من إجمالي المواقع في مقابل 70 في المائة مواقع باللُّغة الإنجليزية، وأن نسبة مستخدمي الإنترنت من العرب تمثل 1.4 في المائة في مقابل 30 في المائة مستخدما أمريكيا. و10.6 في المائة مستخدما صينيا عرفنا أننا مهددون إن لم نمزق قوائم قل ولا تقل، وننطلق لرحاب اللُّغة العربية المجيدة بعد أن "نفتح نوافذ عقولنا للهواء على أن لا تجتثها الريح" كما أوصى غاندي، فنطور النحو ونيسره ونجدد المعاجم وننفض الغبار عن فقه اللغة، لعلنا نفهم ثم نتقدم.
كاتبة سعودية