الطبقة الوسطى تراوح مكانها في الخطاب السياسي الألماني

الطبقة الوسطى تراوح مكانها في الخطاب السياسي الألماني

تحتل الطبقة الوسطى في الخطاب السياسي للأحزاب الممثلة في "البوندستاج"، مكانة مرموقة. فمنذ فترة ليست بعيدة وصفت هذه الطبقة، لأغراض انتمائية، بأنها "العمود الفقري" (وفقاً للاتحاد المسيحي الديمقراطي والحزب الاشتراكي الألماني) أو أنها بمثابة "القلب" بالنسبة للاقتصاد الألماني (حسب حزب الأحرار الديمقراطي).
إن الأرقام التي تفرزها الطبقة الوسطى هي أرقام مثيرة للاهتمام، فنحو 99 في المائة من المشاريع الألمانية تعتبر (وفقاً لمعاير التصنيف المتبعة أي تلك التي توظف أقل من 500 من العاملين والتي تبلغ قيمة أعمالها 50 مليون يورو سنويا)، مشاريع صغيرة أو متوسطة الحجم، وهي توفر 78 في المائة من أماكن العمل في ألمانيا، كما تدرب أربعة من كل 5 من المتدربين، وهي تستثمر من الأموال ما يرقى إلى مستوى استثمارات المشاريع الكبيرة، وتحقق من الأرباح الخاضعة للضريبة مثل ما تحققه المشاريع الكبيرة أيضاً، رغم أن المشاريع الكبيرة هي المسيطرة غالباً على الصورة التي يكونها المواطنون عن الاقتصاد الألماني.
غير أن المشاريع الصغيرة والمتوسطة أكثر تشتتاً وأكثر تنوعاً وأكثر غنىً بالألوان مما توحي به مؤشرات الأسهم. إن الشركات المشتبكة في معارك الاستحواذ من أمثال "إيون"، "تيسن"، و"ميرك" ليست هي غالباً التي توجد أماكن العمل الجديدة في البلاد، وإنما الشركات الأصغر هي المعنية أكثر بالتوظيف في مشاغلها ومعاملها وفي مؤسساتها لتجارة التجزئة، وهي تشكل في الوقت نفسه أحد الأعمدة التي ينهض عليها المجتمع المدني، فإذا أصابها سوء أصيب المجتمع كله بسوء.
أما حقيقة أن البطالة تطفو الآن على السطح بقوة أشد، فيعود للأوضاع التي يعيشها القطاع المتوسط، فخلال عشر سنوات فقط ألغى قطاع الحرف اليدوية وحده 1.6 مليون وظيفة، أي واحدة من كل أربع وظائف. أما أن عدد العاملين في مجال المهن الحرة قد ازداد، فلا يمكن قراءته على أنه يشكل بالضرورة برهاناً على الازدهار، وإنما يمثل مؤشراً على التردي والشقاء، حيث إن المزيد والمزيد من المسرحين يبحثون عن رزقهم في هذا النوع من الأعمال.
ومع ذلك فإن ثمة إرهاصات في القطاع المتوسط لبدايات جديدة، فالمطاعم والفنادق تسجل يومياً أعداداً متزايدة من النزلاء والضيوف، وتجارة التجزئة تأمل، بعد سنوات من التراجع، في نمو أعمالها بنسبة 1 في المائة، ويلقى هذا الأمل دعماً له في النتائج الإيجابية التي تظهرها دراسات الباحثين في مجال الاستهلاك. كما أن صناديق الادخار أخذت تحس بطلب متزايد على القروض من قبل القطاع الاقتصادي المتوسط ليس فقط لتمويل عمليات الإحلال، وإنما أيضاًَ لتمويل التوسعات. يضاف إلى ذلك أن التمويل الذاتي في هذه المؤسسات قد شهد بعض التحسن، وإن كانت نسبة 10 في المائة التي يمثلها لا تزال نسبة ضئيلة.
إن الحرفيين يأملون أن تتحسن الأعمال ولو بنسبة ضئيلة بحيث يمكن اختصار عمليات التسريح إلى النصف، وضمن هذا السياق لا أحد يتحدث طبعاً عن خلق أماكن عمل جديدة. ومن هنا يمكن توجيه سؤال عما إذا كان تحسن المزاج هو فعلاً انعكاس حقيقي للواقع، مع أن الشروط لحدوث نهوض جديد تبدو هشة كما كانت في السابق.
وفي الحقيقة أن لا شيء قد تحرك في اتجاه إيجابي ولمصلحة الطبقة الوسطى في ظل حكومة ميركل. وقد يكفي في هذا السياق الاستشهاد بموقفها من المشاريع الصغيرة، إذا كانت تود فعلاً أن تعطيها دفعة للأمام، فبدلاً من التعامل مع هذه الطبقة برعاية وعطف، يسعى المشرعون بعصرها أكثر فأكثر، بحيث لن تتمكن من هضم الزيادة في ضريبة القيمة المضافة، هذا في الوقت الذي تأجل فيه تنفيذ الموعد بتعديل القانون الضريبي إلى العام المقبل.
أما كيف سيكون ممكناً بهذه الطريقة تقوية أداء هذه المشاريع وتطويل أمد تغطيتها مالياً، وتحقيق زيادة في التوظيف، ومحاربة العمالة السوداء، فما زال كل هذا سراً مصوناً من أسرار الحكومة.
وكتعويض بسيط اصطنعت الحرف اليدوية لنفسها مصادر جديدة للدعم المالي، إذ تبدو الحسابات الأولية أفضل قليلاً مما كانت عليه حتى الآن فيما يتعلق بالأعباء الضريبية. فصناعة البناء يمكنها الاستفادة من قروض مدعومة لأغراض العزل الحراري، كما أن قانون التركات لعام 2007 سيخفف الأعباء في حالة انتقال ملكية المشروع بفعل الوراثة.
غير أن الميزة المؤقتة لهذه الإجراءات الانتقائية لها تكاليفها، فمن بين هذه التكاليف تلك التشوهات التي تحدثها عملية المنافسة، بحيث تكون فائدة الطرف الأول خسارة للطرف الثاني. وبشكل عام فإن هذه البرامج لن تساهم في تحسين الأجواء الاقتصادية ولا في شروط أماكن العمل.
إلى جانب ذلك تبرز الإجراءات السياسية التي تعيق عمل الطبقة الوسطى، فالعمل الجزئي يجري تثبيطه دون لزوم، وفي هذا السياق تجري الحكومة مناقشات حول الحد الأعلى والحد الأدنى للأجور وكأنه ليس ثمة ملايين من العمال غير المؤهلين الذين لن يقدم أحد على توظيفهم ولو بأقل مستوى من الأجور.
وفي ظل هذه الأوضاع التي يكتنفها خليط من الإشارات المتضاربة يصبح من العسير تبين مسالك الطريق. كما أن البيروقراطية التي تضغط بشكل خاص على الطبقة الوسطى تزداد تفشياً رغم كل التصريحات السياسية بعكس ذلك. ولعل شروط اقتناء سيارة خدمة أو دفع اشتراكات الضمان الاجتماعي مقدماً هما مثالان حديثان على ذلك.
أما إذا كان تخفيف تكاليف العمل سيتحقق فعلاً مع تنفيذ الإصلاح الصحي فما زال الموضوع محفوفاً بالشكوك. لأن الائتلاف الحكومي الأسود والأحمر (أي بين الحزب الديمقراطي المسيحي والحزب الاشتراكي الألماني) قد اكتفى حتى الآن بإطلاق الوعود للطبقة الوسطى، ولكن الأمر الملح فعلاً هو اتخاذ خطوات إصلاحية حقيقية. وعلى السيدة ميركل ألا تنخدع باستفتاءات الرأي العام الإيجابية، إذ سرعان ما تتبدل الأمزجة.

الأكثر قراءة