تحديات وحدة الأمة الإسلامية

تحديات وحدة الأمة الإسلامية

عقد في مكة المكرمة، وفى رحاب البيت الحرام الملتقى الأول لوحدة الأمة الإسلامية، الذي قرر في نهاية أعماله خلال الأيام الثلاثة الأولى من شهر أبريل 2006 أن يعقد هذا الملتقى مرة كل ثلاث سنوات، ويتولى مجلس تنفيذي متابعة ما يصدره الملتقى من قرارات، وذلك في إطار رابطة العالم الإسلامي. ولا شك أن التقاء علماء المسلمين وغيرتهم على واقع الأمة الإسلامية أمر مهم، ولكن الأهم منه أن يلتقي هؤلاء العلماء على حلول عملية للخروج من مأزق التشتت والتشرذم في الفكر والرؤية والعمل، مما أشاع الفتنة بين شبابنا الذي افتقد المؤشر الصحيح والقدوة الحقيقية. وقد شخصت أبحاث هذا الملتقى صورة الأمة الإسلامية كما جسدها القرآن الكريم وأبدعتها السُنة النبوية المطهرة فهي صورة مثالية لجسد واحد يتداعى بالسهر والحمى كل أعضائه إذا اشتكى منه عضو واحد، وهى أمة كالبنيان المرصوص يشد بعضها بعضا، كما يسقط البنيان إذا سقط حجر واحد، وهي أمة، كما وصفها القرآن الكريم، تتراحم فيما بينها، ولكنها تكون أشد بأساً على غيرها إذا ناصب هذا الغير هذه الأمة العداء، أو اعتدى على مقدساتها. وإذا كانت صورة الأمة الإسلامية في القرآن والسُنة صورة مثالية، فإن هذه الصورة تفترق تماماً عن الواقع المعاصر. وربما أصبح هذا الواقع هو ما حذر منه الرسول الكريم، صلى الله عليه وسلم، في حديث بالغ الدلالة، حذر فيه الرسول الكريم من أن هذه الأمة سيأتي عليها زمن تتكالب عليها فيه الأمم الأخرى كما تتكالب الأكلة على قصعتها، وهم حينئذ كثرة وليسوا قلة، ولكن هذه الكثرة تفتقر إلى الفاعلية، ويكون شأنها كشأن غثاء السيل بعد أن ينزع الله الخوف والمهابة لهذه الأمة من قلوب أعدائها، فيستخفون بها. ولكن ما يحدث لها يكون سببه الرئيسي هو انصراف هذه الأمة نفسها إلى الدنيا، والانصراف عن الآخرة، وهى حالة عبر عنها الحديث الشريف تعبيراً دقيقاً بليغاً، بأن الأمة سوف تصاب في هذا الزمن بالوَهْن، وهو ليس كالوَهَن، وهو النصب والتعب، الذي يصيب الإنسان. وليس معنى الحديث أن هذا الزمن هو ما نحن فيه، أو أن زمن الضعف والانحسار هو قدر مكتوب، ولكنه تحذير من رسول الله، صلى الله عليه وسلم، من أن الأمة الإسلامية إذا انصرفت عن الحق فيما بينها وفى سلوكها، فإنها تصبح مأكلة للأمم الأخرى. ومعنى الحديث الشريف أن الاستخفاف بالأمة الإسلامية يبدأ بمرض في داخلها. ولهذا السبب، فإن دراسة أحوال هذه الأمة، والأسباب التي أدت إلى هذه الحالة هي المخرج الصحيح مما تعانيه. وقد قدم الملتقى عدداً من الحلول في المجالات الاقتصادية وغيرها، ولكنني أعتقد أننا نحتاج إلى حلول أكثر نجاعة، فلا يكفي أن نطالب بإنشاء سوق إسلامية مشتركة دون أن ندرك أن اقتصاد الدول الإسلامية أصبح جزءاً من منظومات عالمية، وهذا الاقتصاد يعتمد أساساً على المواد الأولية، وأن النظام الاقتصادي الدولي يكرس عدم التوازن والعدل بين حقوق الدول النامية وحقوق الدول الصناعية. ولذلك فإن علماء الأمة مطالبون بالبحث الجدي في الطريقة التي يمكن بها تحرير الاقتصاد في الدول الإسلامية من الهيمنة التي يعانيها في جميع المجالات، وأن تصبح موارد الأمة خالصة لمشروعاتها التنموية. كذلك يجب على علماء الأمة أن يبحثوا في الإشكاليات الفقهية التي يختلط مصطلح الأمة الإسلامية بها مع غيرها من المصطلحات. ويبدو أن حل هذه المشكلة الفقهية يعتمد على التفسير الميسور للمفاهيم القرآنية، ولا بد أن يدرك هؤلاء العلماء أن هذه الأمة تعيش بين أمم أخرى، وأنهم جميعاً أعضاء في المجتمع الدولي، ولا بد أن يفسروا قول الله سبحانه وتعالى "كنتم خير أمة أخرجت للناس" تفسيراً صحيحاً، حتى تعنى أنها خير أمة بما أتاح الله لها من سبيل الخير والرشاد، فإن عملت بها استحقت أن تكون خير أمة، وإن قصرت في ذلك فإن الله يفاضل بين الأمم والأفراد بأعمالهم، ولم يكتب على أمم معينة وضعاً دائماً، وإنما هو يرشدها حتى يختبر إيمانها. وهذا ينطبق على مقولة "شعب الله المختار"، وعلى الأمة الإسلامية، وغيرها من الأمم التي ورد ذكرها في القرآن الكريم. كذلك، فإن حل هذه الإشكاليات الفقهية يعتمد اعتماداً كبيراً على التفسير المستنير كعلاقة الإسلام بغيره من الأديان الأخرى فقد سمعت في المؤتمر من يقول بما يمكن أن يؤدى إلى التصادم والصراع، وتنكب طريق الضلال السياسي، وذلك بالإصرار على أن الأمة الإسلامية أرقى من غيرها بنص القرآن الكريم، حتى لو جلست في الطرقات، أو استجدت غيرها من الأمم، وهذا تفسير معيب. كذلك، فإن تعدد الوصف الشرعي لبعض التصرفات، مثل القتال إلى جانب المقاومة، أو مواجهة نظام الحكم داخل الدولة أدى إلى سحب من الغموض والإبهام حول شبابنا. ولهذا السبب، فإن حرص الشباب على التأسي بتوجيهات علماء المسلمين يجب ألا يصاب بالإحباط أو بالانصراف عن هؤلاء العلماء. ولهذا السبب أيضاً، فإن العلماء هم عنوان الحقيقة، التي تتنوع طرق الوصول إليها، ولا يجب لأن يكون اختلاف اجتهادهم سبباً ي تمزيق شمل الأمة. والطريق إلى ذلك هو العلم الصافي النقي، الذي لا يقصد إلا وجه الله ومصالح الأمة، والتسامح فيما يبديه غيرهم من آراء، والسير على منهج علماء السلف الصالح، الذين كانوا يؤكدون ضرورة التعاون على ما اتفقوا عليه، وأن يعذر بعضهم بعضاً فيما اختلفوا فيه، وأن يتعلموا أدب الاختلاف في تراثهم المجيد، وأن يكونوا خير ناصح للحاكم في غير خوف أو طمع، فإذا صلح الراعي بنصحهم صلحت الرعية، كما يجمع الفقهاء.
وقد رأيت أن مفهوم الأمة الإسلامية، كما رسمه القرآن الكريم، والسُنة النبوية المطهرة يواجه تحديات على الأرض في عالمنا المعاصر. فكيف يمكن أن نوفق بين انتماء المسلم إلى أمة واحدة، وأن نحدد حدود الولاء لها والتزاماته إزاءها، وبين حقوق المواطنة والانتماء إلى دولة إسلامية قد يختلف موقفها عن مواقف غيرها، مادامت فكرة الأمة الإسلامية فكرة معنوية. ويجب أن يبحث العلماء في العلاقة بين الأمة الإسلامية وبين غيرها من الأمم، فالمسلم في إحدى الدول الأوروبية ينتمي ويخلص إلى الأمة التي يعيش فيها، كما أنه مطالب بالإخلاص إلى الأمة الإسلامية، وهو ما حدث في بريطانيا مثلاً، بمناسبة الغزو الأمريكي للعراق، فقد شعر المسلم البريطاني والأمريكي بأن هناك تناقضاً بين ولائه لبريطانيا أو الولايات المتحدة، اللتين تقومان بالغزو، وبين العراق الذي تم غزوه والاعتداء عليه ظلماً وعدواناً، وأدى هذا التمزق في المواقف، مع غياب اجتهادات علماء المسلمين، إلى أن بعض أبناء الجالية الإسلامية ذهبوا إلى العراق للانضمام إلى المقاومة العراقية – من منطلق إسلامي – ضد الجيوش البريطانية، فحكمت عليهم المحاكم البريطانية بالخيانة العظمى، واعتبر بعضهم أن هذا الحكم حكم دنيوي، وهو جزء من الثمن الذي يدفعه المسلم في سبيل نصرة أمته. ولذلك، فإن علماء الأمة يجب أن يعالجوا هذه القضايا، وهذا هو السبب في أن معالجة القضايا الشائكة، وما تنطوي عليه من مخاطر توجب توحيد الفتاوى بشأنها، كما طالب بذلك خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز في كلمته أمام القمة الإسلامية الاستثنائية في مكة المكرمة في الأسبوع الأول من ديسمبر عام 2005. ومن القضايا التي يجب ألا يتوقف عندها علماء المسلمين طويلاً هي العلاقة بين الإسلام والديمقراطية، إذا فُهم الإسلام على أنه تنظيم للمجتمع وطريق لسعادته، بصرف النظر عن الأشكال والإجراءات والأساليب التي تحقق ذلك. ورأيت أنه على علماء المسلمين أن يوثقوا العلاقة بين العروبة والإسلام، فقد سمعت بعضهم يتبنى خطاباً لا يتفق مع مصالح المجتمع العربي والإسلامي، فيردد مقولات جوفاء، وهى أن الفكر القومي، وهو فكر علماني بطبيعته كما يقولون، لا يتفق مع الإسلام. وخلص هؤلاء إلى أنه لا التقاء بين العروبة والإسلام. وقد يكون هذا النفر من العلماء قد وقع أسيراً لبعض المفاهيم، أو توقف عند فصل واحد من فصول استخدام الدين لخدمة الأطروحات السياسية، مثلما أوعز الرئيس السادات إلى الأزهر بأن يؤيده في صلحه مع إسرائيل، فافتى شيخ الأزهر بأن اتفاقية السلام بين مصر وإسرائيل تشبه صلح الحديبية بين رسولنا الكريم وبين كفار قريش. ولهذا السبب بالذات، فقد ركزت على تجنب استخدام الدين في أغراض سياسية متغيرة، وإنما يجب استخدامه في التربية الصحيحة، وتنشئة المسلم تنشئة راقية.
وأخيراً، فإن القضايا التي تنتظر اجتهاد علماء المسلمين تتغير بتغير الليل والنهار، ولذلك رأيت أن ينشأ مركز للدراسات الإسلامية ينشغل بهذه القضايا، فضلاً عما انتهى إليه الملتقى من دراسة اقتراح بإنشاء هيئة كبرى للإغاثة الإسلامية، وتحرير العمل الخيري الإسلامي من المؤامرات السياسية، ومن القيود التي استحدثها بعض من استهدف الإسلام وأهله في العقد الأخير.

الأكثر قراءة