لجنة تسوية المنازعات المصرفية ومتطلبات تطويرها
تعتبر العمليات والخدمات المصرفية من الناحية القانونية، أعمالاً تجارية وتعتبر التشريعات المنظمة لإنشاء البنوك وأنشطتها وعقودها المصرفية جزءاً من القانون التجاري، وتدخل بالتالي المنازعات التي تنشأ بين البنوك وعملائها بخصوص الأعمال والخدمات المصرفية ضمن اختصاصات الجهة القضائية المختصة بالفصل في المنازعات التجارية، ولهذا ظلت القضايا المصرفية حيناً من الزمن من اختصاص هيئات حسم المنازعات التجارية إلى أن أصدر وزير التجارة قراراً برقم 822 وتاريخ 13/4/1406هـ، نصت مادته الأولى بأن يعهد إلى اللجنة القانونية في وزارة التجارة بالفصل في المنازعات التي تقع بين البنوك وعملائها والناشئة عن العقود والعمليات المصرفية التي تبرم أو تتم بعد العمل بهذا القرار. وهذه اللجنة كان وزير التجارة قد أنشأها للنظر والفصل في التظلمات والطعون المقدمة من ذوي الشأن ضد القرارات التي تصدرها مكاتب الفصل في منازعات الأوراق التجارية. ووفقاً للمادة الثانية من هذا القرار يتعين على اللجنة المذكورة أن تطبق على القضايا المصرفية الأحكام والإجراءات المنصوص عليها في القرار الوزاري رقم 859 وتاريخ 13/3/1403هـ، التي تتبعها الجهات المختصة بالفصل في منازعات الأوراق التجارية. كما قررت المادة الثالثة أن ينشر هذا القرار في الجريدة الرسمية ويعمل به من تاريخ نشره. ونشر القرار المذكور في الجريدة الرسمية للدولة "أم القرى" الصادر في 29/4/1406هـ، الموافق 10/1/1986. ولكن هذا القرار لم يدخل حيز التنفيذ وظل الوضع على ما هو عليه. ثم حدث تطور مهم في 10/7/1407هـ، إذ صدر خطاب رئيس مجلس الوزراء رقم 729/8 موجه إلى وزير المالية والاقتصاد الوطني يتضمن الموافقة على إنشاء لجنة في مؤسسة النقد العربي السعودي لتسوية المنازعات المصرفية. وقد تضمن هذا الخطاب القواعد التالية:
1 ـ على المحاكم وهيئات حسم المنازعات التجارية عدم سماع الدعوى التي تقدم ضد البنوك أو من قبلها إلا بعد موافقة رئيس مجلس الوزراء.
2 ـ تشكل اللجنة في مؤسسة النقد العربي السعودي من ثلاثة أشخاص من ذوي التخصص لدراسة القضايا بين البنوك وعملائها من أجل تسوية الخلافات وإيجاد الحلول المناسبة بين الطرفين طبقاً للاتفاقيات الموقعة بينهما.
3 ـ على اللجنة أن تقرر الإجراءات التي يمكن اتخاذها لضمان تسوية القضايا بما في ذلك قيام الجهات الحكومية بحجز ما لديها من مستحقات للمدين وتسديد الديون المطالب بها، كما يجوز للجنة أن توصي بالحجز على أموال المدين ومنعه من السفر.
4 ـ إذا لم يتعاون المدين مع اللجنة في التسوية مع البنك يجوز للجنة أن تقرر منع التعامل مع المدين من قبل الأجهزة الحكومية أو البنوك.
5 ـ على المحاكم وهيئات حسم المنازعات أن ترفع ما هو معروض أمامها حالياً من قضايا لم يبت فيها إلى ديوان رئاسة مجلس الوزراء تمهيداً لإحالتها إلى اللجنة المنصوص عليها في البند (ب).
6 ـ يقدم ما يستجد من القضايا إلى مؤسسة النقد للرفع عنه لديوان رئاسة مجلس الوزراء قبل معالجتها من قبل اللجنة المشار إليها.
7 ـ على اللجنة أن تنظر في أي مطالبة يتقدم بها دائنو الأشخاص المدينين للبنوك وذلك فيما قد يكون للمدينين من مستحقات لدى الجهات الحكومية بحيث تكون البنوك أسوة بالغرماء.
8 ـ عندما تقرر اللجنة المشار إليها عدم توصلها إلى تسوية مرضية للطرفين يحال النزاع إلى المحكمة المختصة للبت فيه.
وتنفيذا لحكم الفقرة الثالثة من قرار رئيس مجلس الوزراء سالف الذكر، قامت مؤسسة النقد العربي السعودي بوضع لائحة خاصة بقواعد وإجراءات العمل الداخلي لجنة تسوية المنازعات المصرفية، مكونة من 11 مادة. وقد تم اعتمادها من وزير المالية بموجب خطابه الموجه إلى محافظ مؤسسة النقد العربي السعودي برقم 2/8675 وتاريخ 22/11/1407هـ.
تناول بعض المحامين والباحثين بالدراسة الطبيعة القانونية لدور هذه اللجنة واختلفت آراؤهم في هذا الشأن، فذهب رأي إلى أن دورها بالنسبة إلى ما يعرض عليها من قضايا أقرب إلى التحكيم بالصلح منه إلى القضاء لأن دورها ينحصر في محاولة التوصل إلى تسوية يرضى عنها طرفا النزاع وليست تلك وظيفة القضاء الذي يطبق حكم الشرع والنظام على المنازعة، دون أدنى اعتداد بقبول أطراف النزاع حكمه أو عدم قبولهم به. وذهب رأي آخر إلى أن دور اللجنة دور توفيقي يقوم على قاعدة الرضا بين طرفي الخصومة, فقرار اللجنة يستمد سند قوته الإلزامية من رضا الطرفين بالتسوية التي ارتأتها.
وإنني وإن كنت أتفق مع الرأي القائل إن دور اللجنة طبقاً لقرار إنشائها هو دور توفيقي إلا أن الواقع العملي يشير إلى أن اللجنة تمارس عملا قضائياً وليس مجرد التوفيق بين الخصوم، والدليل على ذلك ما يلي:
1 ـ تنص المادة (5) من لائحة قواعد وإجراءات العمل الداخلية الخاصة بهذه اللجنة على ما يلي:
(بعد أن تستوفي اللجنة سماع ومناقشة طرفي النزاع تقوم بعرض الصلح على الطرفين فإن قبلا يحرر صك بذلك ويعتبر بمثابة القرار النهائي الملزم القابل للتنفيذ بواسطة سلطات التنفيذ. وإذا لم يتم تصالح الطرفين كان على اللجنة تسوية النزاع وفقاً للاتفاقيات المعقودة بينهما ولها في ذلك الصلاحيات كافة لاستعمال الإجراءات كافة لحمل طرفي النزاع على احترام التزاماتهما وتعهداتهما لضمان تسوية النزاع وذلك في حدود ما تقضي به النظم الأخرى السارية في المملكة).
وإنفاذاً لهذه المادة لم تصدر اللجنة ـ حسب علمي ـ قراراً بشأن أي منازعة يقضي بعدم توصلها إلى تسويته بطريقة مرضية لطرفي النزاع ومن ثم إحالته إلى المحكمة المختصة للبت فيه بل إن اللجنة تفرض في قراراتها التسوية التي تراها مناسبة للمنازعات المصرفية بغض النظر عن قناعة أطراف الخصومة بهذه التسوية.
2 ـ نصت المادة (10) من لائحة قواعد وإجراءات عمل اللجنة بأنه إذا سبق للمتنازعين أن وقعا وثيقة تحكيم لحل النزاع عن طريق التحكيم وفقاً لنظام التحكيم الصادر بالمرسوم الملكي رقم 46 وتاريخ 12/7/1403هـ، أو قررا ذلك أثناء نظر النزاع أمام اللجنة تعتبر اللجنة هي الجهة المقصودة بالجهة المختصة أصلاً للنظر في النزاع المنصوص عليها في نظام التحكيم سواء فيما يتعلق بالمصادقة على وثيقة التحكيم أو المصادقة على قرار التحكيم, كما أن اللجنة هي الجهة المختصة بدراسة توصيات هيئة التحكيم فيما يتعلق بإجراءات الحجز والمنع واتخاذ قرار بشأنها.
فاللجنة بموجب هذه المادة تقوم بدور الجهة القضائية المختصة أصلاً بنظر النزاع في اعتماد وثيقة التحكيم أو المصادقة على قرار التحكيم وبالتالي فهي الجهة التي تنظر في الطعون والاعتراضات التي يقدمها أطراف الخصومة ضد قرار التحكيم. وهذه المهام التي تقوم بها اللجنة تؤكد أن دورها في الواقع العملي دور قضائي وليس مجرد دور توفيقي.
3 ـ إن قرارات اللجنة تتمتع لدى الجهات الإدارية التنفيذية بحجية وقوة الأمر المقضي به التي تتمتع بها الأحكام القضائية، بناء على تعميم نائب وزير الداخلية رقم 10207 وتاريخ 22/2/1409هـ، الموافق 3/10/1988, الذي أكد على الجهات المعنية سرعة تنفيذ القرارات الصادرة من قبل لجنة تسوية المنازعات المصرفية وإلزام المحكوم عليه بسداد المبلغ المحكوم به.
ومهما يكن من أمر الطبيعة القانونية لمهمة اللجنة، فإنها في الواقع أدت وتؤدي دوراً مهماً في إرساء قواعد ومبادئ قانونية أسهمت في استقرار المعاملات المصرفية وتدعيم النظام المصرفي السعودي.
ويمكن القول إن اللجنة قامت بدور إنشائي في القانون المصرفي السعودي أشبه بدور القضاء الإداري المقارن في إنشاء قواعد قانونية إدارية، لأن اللجنة كانت تواجه في بعض الأحيان عدم وجود نصوص نظامية قابلة للتطبيق على موضوع النزاع فتلجأ لمواجهة هذا النقص إلى استنباط قواعد قانونية من القوانين المقارنة والأعراف والعادات المصرفية. ولقد وصف المستشار القانوني زهير الحربش هذا الدور وصفا دقيقاً في مقاله المنشور في مجلة تجارة الرياض العدد 397 تشرين الأول (أكبوبر) 1995. بعنوان "الاختصاص القضائي في القضايا المصرفية في المملكة" حيث قال: "كما قامت اللجنة بإرساء مبادئ قانونية ومصرفية لم تكن موجودة في النظام المصرفي السعودي من قبل، بعض هذه المبادئ ينسجم مع المبادئ الموجودة لدى الأنظمة المصرفية في دول مجاورة، وبعضها يتفق مع أحكام القضاء المقارن، وكثير منها ذو طبيعة خاصة تنسجم مع أوضاع البنوك السعودية وعملائها".
إن تثمين دور اللجنة لا يعني أن وضعها الحالي خال من المآخذ والعيوب، فالعديد من الباحثين القانونيين تناولوا هذه المآخذ، ويمكن إيجازها في النقاط التالية:
1 ـ إنه طبقاً للفقرة 5 من قرار الموافقة بإنشاء اللجنة، فإنها لا تستطيع النظر في الدعوى إلا بعد استئذان ديوان رئاسة مجلس الوزراء، وهو أمر يؤدي إلى إطالة إجراءات التقاضي.
2 ـ إن اللجنة تتكون من أعضاء غير متفرغين، وهو أمر يؤدي إلى البطء في حسم المنازعات المصرفية.
3 ـ إنه لا توجد إلا لجنة واحدة في الرياض مما يجشم الخصوم من خارج الرياض عناء السفر وتكاليف الإقامة في الرياض.
4 ـ إن قرارات اللجنة نهائية لأنها غير قابلة للاستئناف أمام جهة قضائية أعلى، وهذا أمر لا يتفق مع قاعدة التقاضي على درجتين، والمعمول بها لدى المحاكم والهيئات القضائية، حيث يحق للخصوم أن يعترضوا على الأحكام التي تصدرها محاكم الدرجة الأولى أمام محكمة أو هيئة قضائية أعلى، وأن التقاضي على درجتين يوفر ضمانة أكبر للعدالة لأنه يوفر الفرصة لإصلاح الأخطاء الإجرائية والموضوعية التي قد تكون وقعت فيها محاكم الدرجة الأولى.
وللتخلص من هذه المآخذ والعيوب فإنه يتعين أن تتحول اللجنة إلى هيئة قضائية تتكون من دوائر ابتدائية تتوزع في مناطق المملكة، بحسب الحاجة، ودائرة استئنافية، وأن يكون جميع أعضاء الهيئة من رجال القانون ذوي الدراية العميقة والخبرة الواسعة بشؤون العمل المصرفي، وأن يمنح أعضاؤها الحصانات والامتيازات المقررة للقضاة وأن تكون للهيئة لائحة خاصة بالإجراءات والمرافعات تتناسب وطبيعة القضايا المصرفية. ونظراً لوجود صلة وثيقة بين الأوراق التجارية (الشيكات، الكمبيالات, والسندات لأمر) والعمل المصرفي فقد يكون من الأفضل أن تدمج في الهيئة المقترحة لجان ومكاتب الفصل في منازعات الأوراق التجارية، وبحيث تختص الهيئة المقترحة بالفصل في جميع المنازعات المتعلقة بعقود العمليات والخدمات المصرفية والأوراق التجارية.
من ناحية أخرى، فإن التطور الكبير الذي شهده العمل المصرفي يوجب أن يسن قانون مصرفي شامل ينظم ويحكم جميع أنواع العمليات والخدمات المصرفية، فالنظام الحالي المسمى (نظام مراقبة البنوك) والصادر سنة 1386هـ/ 1966. لم يعد يتواكب مع هذا التطور، فضلاً عن أنه لا يحتوي على قواعد قانونية عامة تحكم عقود العمليات والخدمات المصرفية، وهو نقص تشريعي لا بد من سده. ولعل مما يزكي هذا الرأي ويدعمه أن بعض البنوك المحلية اتجهت إلى تطبيق أساليب وصيغ التعامل المصرفي الإسلامي، مثل المرابحة والمضاربة والتورق، وإنه سداً لذرائع الخلافات بسبب اختلاف الآراء الفقهية، فإن من المصلحة تقنين هذه الصيغ والأساليب في قواعد عامة ملزمة مستمدة من أكثر الآراء الفقهية ملاءمة لظروف وأوضاع العمل المصرفي المعاصر.
جدة، فاكس: 6557888