نزع فتيل الأزمة بين الاتحاد الأوروبي وألمانيا حول عجز الموازنة
أليس هذا رائعا أن يقوم الاتحاد الأوروبي بكيل الانتقادات إلى ألمانيا بسبب عجز ميزانيتها رغم أن هذه الانتقادات جاءت متأخرة عامين عن توقيتها؟ إن إجراءات الحفاظ على الاستقرار والثبات المالي التي يجري تطبيقها في أوروبا تتعرض الآن إلى امتحان عسير بعد التعديلات التي أدخلت عليها السنة الماضية، وإن باتت تكتسب مزيداً من المصداقية.
وبالنسبة إلى حكومة ألمانيا الاتحادية، فإنها لم تعد تتحدى الإجراءات الأوروبية، بل إن هناك حالة تعاون وثيق مع اللجنة الأوروبية. وبهذه الطريقة ينبغي على جميع الأطراف أن تكون راضية، فاللجنة تستطيع أن تقدم نفسها كحامية للاتفاقيات الأوروبية، بينما يستغل وزير مالية ألمانيا الانتقادات الأوروبية للدفاع عن خططه للموازنة الجديدة. لكن الشيء الوحيد الصحيح في كل هذا هو أن المجموعة الاقتصادية الأوروبية هي التي خرجت ظافرة في النزاع الذي كان قائماً حول التأويلات المختلفة لاتفاقية الاتحاد الأوروبي.
لقد حافظ الطرفان على ماء وجهيهما، ولهذا فهما قادران الآن على التعايش مع القرار المتخذ. لقد كان الهدف السياسي من تعديل الاتفاقية هو تحاشي النزاعات مستقبلاً بين بروكسل والدول الأعضاء في الاتحاد، فهذا هو لب الموضوع ولا شيء غيره. ولكن من الواضح أنه لا يمكن التوفيق بين الحل المطروح حالياً والأهداف المعلنة رسمياً قبل عام لتعديل الاتفاقية، حيث قيل آنذاك إن تطبيق الاتفاقية رهن بشروط معينة ويقوم على أساس الرشد الاقتصادي.
غير أن القرار الأخير للجنة عكس هذا التوجه، فلم يعد يسمح بأي تأويل أو تفسير. وفي القضية الراهنة يتعلق الأمر بالبند الذي أضيف إلى الاتفاقية والذي نص على أن "على البلد الذي يعاني من عجز أن يعمل على تخفيض هذا العجز بنسبة نصف نقطة مئوية في كل عام".
إن البند المذكور يستخدم تعبير "يجب" ويتجنب استخدام تعبيرات أخرى مثل "يمكن" أو "من المفترض"، ومع ذلك فإن اللجنة الأوروبية قبلت التأويل الألماني القائل إن هذا الإلزام يمكن أن يكون جزئياً. وهذا التأويل لافت للنظر بشكل خاص إذا أخذنا مدلول البند المذكور بعين الاعتبار، وهو الذي يؤكد في السياق نفسه ضرورة تقوية الاتفاقية في المستقبل، فالبلد الذي يمر بمرحلة ضعف في نموه الاقتصادي ينبغي ألا يجبر على إيذاء نفسه بالتغيير والتوفير، كما أن تأثير النمو الاقتصادي على عجز الموازنة لا ينبغي أن يكون هو العامل الحاسم، وإنما إرادة الحكومة المعنية بالتثبيت الاقتصادي طويل المدى.
إن هذا لا ينطبق على ألمانيا، فالعجز الهيكلي يمكن أن يبقى كما هو لهذا العام، ومن أجل ذلك أوصت اللجنة بتخفيض العجز بنسبة 1 في المائة فقط من الآن وحتى 2007، أما بند الإلزام فقد اختفى مؤقتاً عن الأنظار. أما إذا كان من الممكن تحقيق هذا الهدف فلن يتضح قبل عام 2008، وحتى ذلك الحين يمكن أن يحدث الكثير، وهو ما يعطي مبرراً لتناسي الاتفاقية. ثم من هو القادر على التنبؤ فيما إذا كان الائتلاف الحاكم في ألمانيا سيكون حتى ذلك الحين في السلطة، وبالتالي يكون من الممكن مساءلته في ذلك؟!
العملية إذن تثير العديد من الأسئلة، ولكن ثمة أمر لا يمكن لأحد أن يجادل فيه، إذ بعد أن انخفض عجز الدولة عام 2005 إلى ما نسبته 3.3 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي، يصبح من الممكن، إذا توافرت الإدارة السياسية، تخفيض العجز لهذا العام إلى ما دون نسبة 3 في المائة. وإذا حدث ذلك فإنه سيؤدي حتماً إلى وقف المساءلة الأوروبية بشأن العجز الألماني مطلع عام 2007. وبكلمات أخرى فإن ألمانيا لم تتجاوز، وللمرة الخامسة على التوالي، حدود اتفاقية ماستريخت، لأن نسبة 3 في المائة تقتضي منها إجراءات تقشفية، وإنما السبب الوحيد لذلك هو انعدام الرغبة لدى الائتلاف العظيم في أي توفير في النفقات.
إن الاتفاقية الأوروبية ليست هي التي تحدد اتجاه السياسات المالية، وإنما اتفاقية التحالف في ألمانيا هي التي حددت وفسرت هذه السياسات. ولهذا فإن حقيقة أن العجز قد يبقى على ما هو عليه دون تغيير عام 2006 بالمقارنة مع 2005 لدليل على أن "الرشد الاقتصادي" للاتفاقية لا يذهب بعيداً إذا ما جد الجد.
لقد استغلت الحكومة الاتحادية حجة أنه لا يجوز خنق إرهاصات النمو الاقتصادي بسياسات مالية مقيدة ومتشددة. وفي هذا يقول بيير شتاين بروك وزير المالية: "إذا كان ذلك وارداً في سنوات الكساد، فلا يجوز الآن تعريض النمو الاقتصادي للخطر. أما إذا التزم المرء بالرؤية في هذا السياق فلا بد من الإحساس بالخوف قبل حلول عام 2007، وهو العام الذي سيشهد زيادة ضريبة القيمة المضافة وفرض أعباء أخرى إضافية. إذ كيف يمكن النجاح في مسعى تخفيض العجز بنسبة 1 في المائة في ظل مثل هذه الإجراءات المقيدة؟!".
جواب شتاين بروك على هذا التساؤل يفترض أن يوحي بأن هذه هي ليست القضية، فهو يحاول أن يعطي الانطباع بأن التركيز على السياسة المالية للحكومة الألمانية لن يكون له تأثير يذكر، فهو يعتمد بدلاً من ذلك على وعد اللجنة بأن إجراءاتها يمكن أن تتوقف في الصيف المقبل في ظل تطورات معينة، وقد يحدث ذلك فعلاً بعد ما تطلع اللجنة على موازنة الحكومة الألمانية التي سيقدمها شتاين بروك في تموز (يوليو) المقبل، وبعد أن تتثبت من أن ألمانيا جادة حقاً في الالتزام ببرنامج التثبيت الاقتصادي. وبعكس ذلك فإن الإجراءات لن تتوقف وإنما سيكتفى بتأجيلها مرة أخرى.
إن الالتزام بتخفيض العجز الهيكلي بنسبة 1 في المائة مع نهاية عام 2007 لن يختفي من الوجود، كما أن في وسع وزير المالية الذي تتوافر لديه الرغبة في اتخاذ إجراءات للتوفير في النفقات أن يستخدم هذا الالتزام كحجة إضافية في وجه بعض الأطماع.
وإذا أوفى الوزير بهذا الالتزام فإنه عندها سيحمل على محمل الجد تحقيق الهدف الأساسي الذي تسعى اللجنة الأوروبية إلى تحقيقه، وهو الوصول في النهاية إلى موازنة متوازنة. ولكن لا تتوافر حتى الآن مؤشرات على أية إرادة جدية لتحقيق ذلك.