صناعة السينما.. وسيلة ثقافة جماهيرية لم تستغل بعد!!

صناعة السينما.. وسيلة ثقافة جماهيرية لم تستغل بعد!!

قضايا وسائل الإعلام ودورها في صياغة الرأي العام للمجتمع ومنظومة القيم الأخلاقية والاجتماعية التي تحكمه من أهم القضايا التي يجب تسليط الضوء عليها، خاصة في المجتمعات التقليدية والمحافظة مع تنامي العولمة التي مست كل مجالات الحياة. وبكون السينما "الفن السابع" من القضايا التي كثر الحديث عنها في المجتمع في الفترة الأخيرة، كان لـ"الاقتصادية" هذا التحقيق الذي استطلعت فيه آراء الدكتور معجب الزهراني والدكتور محمد البشر.

عن دور الأفلام السينمائية في صياغة القيم، وتغيير الكثير من المفاهيم خاصة في المجتمعات المحافظة، وحول ما إذا كان وجودها يُهدد قيم المجتمع، أوضح الدكتور معجب الزهراني أن بعض الأفلام تغني مشاهدتها عن قراءة رواية أو كتاب فلسفي أو علمي، ولو نظرنا بعقلانية وتفتح لوجدنا أن الانخراط فيها، تقنية واقتصاداً وثقافة، هو من أكبر وأخطر التحديات حتى لا تظل أفلام الآخرين هي المهيمنة على قلوب وعقول الفئات الجديدة من مجتمعنا. ويضيف الزهراني متسائلاً: ألا نرى مدى التناقض في خطاب المنع حين يجهل الدور المهم للسينما والمسرح في كل المجتمعات الإنسانية الراهنة؟! ويجيب بقوله: الآن كثيرون وكثيرات يحرصون على متابعة أحدث الأفلام في بيوتهم أو خلال إجازتهم في البلدان التي توجد فيها السينما. المبدأ الأهم هو أن من لا يحب السينما لا يحق له أن يفرض رأيه وموقفه على كل المجتمع، ولو وجدت اليوم صالات سينمائية في مدننا وقرانا، لرأينا عشرات الآلاف من الناس يقصدونها من حين لحين، وبخاصة في نهايات الأسبوع وخلال الإجازات التي لا ندري أحياناً كيف نعمل فيها؟!
الدكتور محمد البشر، بدوره يرى أن السينما وسيلة من وسائل الاتصال الجماهيري، شأنها شأن غيرها من وسائل الاتصال الأخرى، وإن اختلفت في تقنياتها وأدواتها. ويرى البشر أن تأثيرها لا يختلف عن تأثير التلفزيون والإذاعة والمسرح وغيرها من الوسائل والفنون، بما في ذلك الوسائل المقروءة كالصحف والمجلات وغيرها. فالتلفزيون الذي يقدم عملاً درامياً أو فيلماً يشاهده ملايين المشاهدين وهم في بيوتهم دون عناء أو مشقة أكثر تأثيراً من السينما، ولاسيما أن مشاهدة هذا العمل متاحة للكبار والأطفال والرجال والنساء على حد سواء وعلى مدار اليوم تقريباً. أما السينما فجمهورها يتحمل عبء وتكلفة مشاهدة هذا الفيلم أو ذاك ويخرج من بيته خصيصاً لهذا الغرض.
وعن دور الأفلام في صياغة القيم أو صناعتها، يرى البشر أن ذلك امتداد لدور بقية وسائل الاتصال الجماهيرية الأخرى والتي تخاطب أعدادا أكبر أو أقل من جمهور السينما. ويضيف: منظومة قيم المجتمع – أي مجتمع- هي ثمرة لتطوره التاريخي والسياسي والعمراني والثقافي وتعاليم الدين الذي يدين به، وهذه المنظومة هي التي تشكل ملامح توجهات وسائل الاتصال الجماهيري, وإبداع وفنون هذا المجتمع أو ذاك. ومثال على ذلك أن مشاهد الجنس والعري تعرض دون حرج في أفلام أوروبا وأمريكا، بل وتوجد دور عرض سينمائي مخصصة لذلك، بينما في دول مثل مصر أو إيران لديها نشاط سينمائي كبير، إلا أن هذه المشاهد لا تقدم بالدرجة نفسها التي تقدم في سينما أوروبا وأمريكا وغيرها من الدول غير الإسلامية، وذلك بسبب أن صناع هذه الأفلام في مصر وإيران ينتمون إلى مجتمع مسلم له تقاليده وأخلاقه المستمدة من تعاليم دينه – هذا مع تحفظنا على كثير من هذه الأعمال على مستوى الشكل والمضمون- فجمهور السينما في مصر وإيران مثلاً لا يقبل بمثل هذه المشاهد الفاضحة، ولا يقبل كذلك أطروحات تخالف دينه أو تقاليد مجتمعه، لكن قد تستطيع السينما من خلال التركيز على بعض القضايا تغيير نظرة المجتمع تجاه هذه القضايا من خلال عرض أبعاد هذه القضية أو تلك والنتائج المترتبة عليها وحجم المصالح أو الأضرار المترتبة عليها. في مصر نجحت السينما في تغيير بعض القوانين، مثل قانون الأحوال الشخصية الخاص بقضايا الطلاق بعد فيلم تناول معاناة امرأة معلقة لسنوات طويلة، كذلك تمت إزالة أو رفع ما يسمى "بالسابقة الأولى" التي كانت تحول دون حصول من يرتكب جريمة واحدة على فرصة عمل شريف، من خلال فيلم جسد معاناة أصحاب هذه السوابق الأولى، وغيرها من الأمور التي قد تنجح السينما في تسليط الضوء عليها وإثارة النقاش حولها وطرح الحلول المقترحة لها من خلال قصة درامية شيقة ومؤثرة أو حتى كوميدية ساخرة, فالسينما قد تستطيع تغيير بعض المفاهيم الاجتماعية، لكنها لا تستطيع صياغة منظومة قيمية لأي مجتمع، وبالتالي فالتساؤل عما إذا كان وجودها يهدد قيم المجتمع، يحمل قدراً كبيراً من المبالغة والمخاوف غير المبررة، وإلا لكان التلفزيون بقنواته الفضائية التي يتجاوز عددها المئات أكثر وأعم خطراً وتهديداً، لذا والموضوعية تتطلب ليس مناقشة خطر السينما كوسيلة بل أثر ما يقدم من أفلام، والموازنة بين المصالح والمفاسد وبحث سبل تعظيم المصالح ودرء المفاسد.
وعن السبب في ممانعة المجتمع السعودي لوجود صالات سينما، وعن مدى الفرق بين رفضها وتقبّل أشرطة فيديو وDVD، أجاب الدكتور معجب الزهراني بقوله: المجتمع لا يمانع ولا يمنع السينما وغيرها، كان هناك دور سينما في معظم مدننا. أما عن تقبل الأفلام في الأشرطة والأسطوانات المدمجة ورفضها في المجال العام فهو جزء من ظاهرة الازدواجية المقيتة والخطيرة في مجتمعنا. كأن الفضاء الخاص لك والفضاء العام لغيرك، وعليك أن تكون هنا غير هناك..ويا للحماقة!
الدكتور محمد البشر أجاب بقوله: فيما يتعلق بممانعة المجتمع السعودي لوجود صالات عرض سينما فمرده أولاً إلى التخوف من الجديد وهو أمر طبيعي في المجتمعات المحافظة وثانياً مشاهد الانحلال الأخلاقي والقيمي التي تعج بها كثير من الأفلام لابتزاز أموال فئات المراهقين والشباب أو مراعاة لما يسميه صناع هذه الأفلام إيرادات شباك التذاكر, وثالثاً وجود خلط بين السينما كوسيلة وما يعرض فيها من أفلام هابطة أو تخالف منظومة قيمنا وتعاليم إسلامنا, وتجاهل أن هذه الوسائل يمكن أن تقدم أعمالاً لا تخالف هذه القيم أو التعاليم متى أحسن استثمارها وتوظيفها، ولعلنا نذكر أفلاماً مثل "الناصر صلاح الدين" و"الرسالة" و"وإسلاماه" وكيف قدمت صورة ممتاز لصفحات من تاريخ الإسلام ونماذجه المشرفة. ورابعاً: أن مجتمعنا لم يمتلك بعد الكوادر الوطنية القادرة على استثمار هذه الوسيلة الجماهيرية بما يضمن عدم مخالفتها لتقاليده وأخلاقه المستمدة من الإسلام الحنيف. ورغم تعدد هذه الأسباب لا يمكن القول أن المجتمع السعودي يرفضها بالكلية, بل يرفض الممارسة الخاطئة أو سوء استغلال هذه الوسيلة وربما يقبل بها لو ضمن ألا يحدث هذه الاستغلال السيئ.
وعن نظرة العالم للمسلمين في ظل غياب السينما في الدول الإسلامية، يرى الدكتور معجب أن السينما ضعيفة في معظم المجتمعات الإسلامية لأن الأيديولوجيات التقليدية قوية فيها كلها.هناك في مصر والمغرب وإيران بوادر صناعة وثقافة سينمائية واعدة, لكن منافستها للسينما الغربية أو الهندية لا يزال أمرا بعيد المنال للأسباب المذكورة سابقاً. الصورة شيء من عمل الإنسان لا من عمل الشيطان، والسينما أم الفنون الحديثة فهل نعي ونبادر أم نظل نقمع ونمنع والعالم اليوم كله صور وأخبار؟!
أما الدكتور البشر فقال: يجب أن نعترف صراحة أن ضعف الإنتاج السينمائي العربي والإسلامي كما وكيفاً حرمنا من وسيلة جماهيرية فاعلة وعصرية لتعريف الآخر بنا، ولاسيما أن صناعة السينما يقدر جمهورها بمئات الملايين في جميع أنحاء العالم، وهذا ما يفسر حرص الصهيونية العالمية على احتكار هذه الصناعة في كبرى معاقلها "هوليود" في الولايات المتحدة الأمريكية. أما عدم وجود سينمات في بعض الدول الإسلامية أو وجودها بشكل رمزي فليس ذا تأثير كبير فيما يتعلق بنظرة العالم إلينا، فالآخر يرانا من خلال موقعنا على خريطة الحضارة على كافة الأصعدة، وهل نحن مؤثرين وفاعلين وأقوياء أم لا؟ فالسينما ليست الملمح الوحيد للحضارة والتقدم والقدرة على الفعل، فهناك ما هو أهم وأخطر لكن يبقى أن إهمالنا لهذه الوسيلة يدعم الصورة السلبية التي ترسخت في أذهان الغرب عن العرب والمسلمين عموماً، ولا يخفى على أحد أن هناك أفلاماً يتم إنتاجها خصيصاً في الغرب لتكريس هذه الصورة عنا، وحتى الاجتهادات السينمائية الموضوعية لا تستطيع تقديم الصورة الصحيحة وإن رغبت في ذلك لأنها ما زالت لا تعرفنا ولا تعرف عنا إلا ما يقدم لها. والتعامل مع هذا يتطلب ليس مناقشة قضايا وجود سينما في بلادنا أم لا بل يتطلب ما هو أكثر من ذلك بكثير.
وعن مدى واقعية استغلال السينما في صراع التيارات الفكرية، يرى الدكتور معجب الزهراني أن السينما أصبحت حقاً من حقوق الإنسان الثقافية، والذين يمنعونها عن محبيها لا بد أن يضخموا من مخاطرها لأن منطق القمع يفضي إلى المنع بقدر ما يبرره، مضيفاً أن السينما متعة وثقافة حديثة وتقبلها يعني المزيد من الاندماج في العصر الراهن, وهذا ما لا يطيقه كثيرون من ممثلي الثقافة التقليدية المنغلقة على ذاتها والمعادية لغيرها.
أما الدكتور محمد البشر فعلق على ذلك بقوله: هناك من يضخم قضية السينما، لفتح جبهة جديدة للصراع، لكن في الوقت ذاته يجب ألا ننشغل بمثل هذا الصراع عن مسيرة التطور والإصلاح دونما انفصال عن تاريخنا وتقاليدنا وخصوصية هويتنا الإسلامية.

الأكثر قراءة