(منْ سَـبقْ لَبـقْ)

كلمة "الاقتصادية" عن "أزمة عربية مقبلة وحلول مهملة" في عدد الجمعة 16/7/2004، قصيرة وموفقة، ولا تترك حججا وأعذارا لقراءتها من "طقطق لسلام عليكم"، سواء من القارئ صاحب العلاقة والمستفيد من أنغامها، أو المسؤول المكلَّف بتحقيق تطلعاتها، خاصة وأنَّ أسلوب تسلسل شرح الأفكار الاقتصادية التي تعرَّضت لها الكلمة سلس للغاية، ومبسِّط للفهم والمتابعة، وبدون تقليل أهمية ومكانة المسؤول لحيوية مضامين الكلمات المتناثرة بين السطور والأفكار الخافية، ركضاً وراء بحثْ ومعرفة الأسباب والمبررات لبقاء معطيات نسيج "الكتان الاقتصادي" مقارب لما كان من قبل نصف قرن . وتُظهر بوضوح فائدة وجدوى "الكلمات القصيرة" في مناقشة المواضيع المهمة، وبدون أي غرابة لاستمرار المعالجات الاقتصادية المهمة بتطويل وتفصيل حتى ولو كانت قراءتها تتعطل إلى بعد نهاية نصف القرن الذي نحن فيه. واضح من المقارنة السريعة، أنَّ تطويل المقالات الاقتصادية الجادة أو تقصيرها لا يؤثر في التوجهات الفكرية للقارئ العادي، ولا يعتد بأي منهما المسؤول، تجاوباً مع الرغبة في معرفة نتائج البحث الاقتصادي العلمي المُقارِن بين المفترضات وحقائق الواقع من جهة المنظور المستقبلي واحتمالات تحقيقه، والوصول له ضمن الفترة الزمنية المقررة، وأنَّ الأهمية ليست بالأموال المنفقة والوقت الضائع بقدر ما هي بتحقيق النتائج الاقتصادية الاجتماعية التي تصب في ازدهار الاقتصاد عن طريق توفير فرص عمل لطالبيه وخدمات اجتماعية للمحتاجين الحقيقيين والمناخ السهل الحر المزاحم للاستثمار.
كلمة الاقتصادية القصيرة الواضحة النفع، أشارت إلى إحدى الدراسات عن اقتصاديات الدول العربية، وأوضحت "أنَّ معدلات النمو السكاني في الدول العربية في الفترة ما بين 1950 و 1990 تتميز بارتفاع كبير قياساً إلى باقي دول العالم، مما أدى إلى تزايد أعداد الأيدي العاملة في جميع الدول العربية .. وأنها ستواجه أزمة كبيرة في توفير فرص عمل جديدة .. وتخلُّف الدول العربية عن الركب العالمي .. وكذلك العقبات الإدارية والتنظيمية في تشجيع الاستثمارات الوطنية والأجنبية .. وهجرة الأموال العربية إلى دول تتميز بسهولة الاستثمار .."
المفترض أنَّ الدراسة التي استندت إليها "الاقتصادية" (للفترة 1950/1990)، أحدث المتوفر المُعلن، من الدراسات الصادرة عن مؤسسات متخصصة عامة أو حكومية لفترة 40 سنة، انقضت وانتهت منذ 15 عاماً، ويمكن أنْ نعتبرها سجلاً تاريخياً يؤكد بقاء (الكتان) في هذا القرن كما كان خلال النصف الأخير من القرن الماضي، وأنَّ منجزات العقول المدبرة للشؤون الاقتصادية، لا تعكس مؤهلاتها العلمية وخبراتها، بقدر حرصها على الدوران، مثل النحلة داخل الخلية التي تربعت في موقع من مواقعها أو ركن من أركانها. أضف إلى ذلك، أنَّ التفكير في الشؤون الاقتصادية للدول العربية هو نوع من الترف العلمي الضائع، حيث أنَّ التفاوت بين الفكر الاقتصادي العربي والتطبيق الواقعي كبير، والتناحر والغيرة والتزاحم بين الاقتصاديات العربية وخاصة على مستوى التطبيق، واضحة لدرجة من الأفضل مناقشة الشأن الاقتصادي لكل بلد عربي منفصلاً عن الآخر، وتحديد أولوياته وميزاته النسبية وإيجابياته وسلبياته، خاصة في إقرار الدخول المنفرد، في اتفاقيات تبادلية دولية وفق المصالح والاتفاقات والتوسع في هذه الترتيبات وفقاً لرغبات الأطراف المعنية العربية الخاصة، بدلاً من الرجوع على ما سبق الاتفاق عليه أو تعطيله أو الإضرار به أو إلغائه.
تصادف أنَّ حقيقة التباعد الاقتصادي العربي الظاهر منذ نشر الاقتصادية كلمتها في 16/7/2004 أكبر بكثير مما شهدته اقتصاديات الوطن العربي منذ نصف قرن مضى، لكن هذا لا يعني أنَّ واقع الماضي أحسن مما عليه الحاضر، بل العكس ربما هو الواقع والصحيح، حيث إنَّ حاضر المنطقة العربية هو امتداد لماضيها بعد "رفع برقع" الحياء والمجاملات والدفع بالمبررات وتأجيل اتخاذ القرارات الصحيحة والمصححة للحقائق والأوضاع. وإذا اعتبرنا أنَّ أهم إنجازات مجلس التعاون الخليجي الترتيبات الاقتصادية المنتظمة اتجاه تحقيق اتفاقيات تجارية تعاونية واقتصادية تتبلور مع السنين لاتفاقيات دمج أسواق دول المجلس، مسايرة لتجربة السوق الأوروبية المشتركة، دون إخلال بالكيانات السياسية الخليجية.
وجدير الإيضاح أنَّ اتفاقيات "سوق التجارة الحرة"، لم تجد طريقاً إلى السوق الأوروبية المشتركة ولا الاتحاد الأوروبي، الذي في "قيامه" تحويل أسواق الدول الأوروبية الأعضاء إلى سوق واحد، وفكرته تتعارض مع "سوق التجارة الحرة"، التي من أبرز أهدافها تفكيك الاتفاقيات التجارية القائمة، وتصعيب قيام اتفاقيات جديدة، لذلك فإنَّ هدف "سوق التجارة الحرة" ليس معاداة مجلس التعاون الخليجي أو "الماركسو"، بقدر ما هو سيطرة اقتصادية تجارية عالمية أمريكية، وأهدافه أبعد من فكرة فتح أسواق الدول الأعضاء وتوفير حرية تجارية بين جهات غير متكافئة القوة، بقدر ما هي تخطيط لصالح الاقتصاد الأمريكي في الصادرات والواردات مثل المنشار "يأكل وهو طالع ونازل" .
الفكرة لقيام منظمة التجارة الحرة لا تعترض عليها كثير من الدول شريطة توقيتها مصاحبة لتقرير ما ستكون عليه منظمة التجارة العالمية وتنظيم بنودها بما يوفر التوازن التجاري ويقي الدول الأعضاء من نسف الجذور الهيكلية الاقتصادية التجارية ومحدودية الحيلة للمعالجة لعدم توفر المعلومات ولا نشر المواد المتعلقة بهذه الاتفاقيات، أو الإطلاع المقارن والدراسة والمعرفة لأسباب ومبررات عقد اتفاقية مع دول أمريكا الوسطى كمجموعة واحدة وليس دولاً متفرقة، خلافاً لمجموعة مجلس التعاون الخليجي، والمخاوف من عرض نفس الاتفاقية على دول الأمريكتين من ألسكا إلى الأرجنتين وعددهم أربع وثلاثون دولة.
أبرز التوجهات لفكرة اتفاقيات التجارة الحرة تصفها الكلمات المعبِّرة للمشاعر والتوجهات التي جاءت في خطاب الرئيس الأمريكي المستر بوش في زيارته الأسبوع الماضي لأمريكا الجنوبية، أنَّ على "أمريكا اللاتينية الاختيار بين مستقبلين متضادين اتجاه تؤيده وتسانده أمريكا ويمثل منظور الأمل، وآخر يستهدف الرجوع للخلف وطوي التقدم الديموقراطي لقرنين"، وفي المقابل أوضح زعماء "الماركسو"، والذي يمثل ثالث أكبر تحالف تجاري في العالم "أنهم لا يعارضون مبدأ حرية التجارة، لكنهم يعارضون "طريقة" واشنجتون في التعامل".
الأوقع في مناقشة الشؤون العربية الاقتصادية، من المعنيين الخاصة والعامة والمسؤولين بالأمور الاقتصادية، التركيز على اقتصاديات الدول العربية منفردة، وحتى يصبح قيام سوق اقتصادي عربي واحد حقيقة نحياها، أو أنْ نتدرَّج في الوصول إليه. إنَّ هذه وجهة نظر لمناقشة الأمور الاقتصادية وليس هنالك ما يمنع استمرار التطبيق مخالفاً للواقع، دون أنْ نغفل أنَّ الفكر العربي للمسؤول، قلباً وقالباً لوطنه، وتطبيقاته وتعاملاته مُعطِّلة للآخرين، وتنظيراته متعارضة للعمل الاقتصادي الجماعي، بينما تصريحاته مطمئنة لقيام سوق عربي واحد.
تقييم حقيقة الأوضاع الاقتصادية من منظور فكر الكُتَّاب المهتمين بالشؤون الاقتصادية الاجتماعية داخل الاقتصاد العربي الواحد، متفاوت مع الترتيب التطبيقي للعلاقة القائمة من الجهات الرسمية في إنجاز المهمات المتعلقة بإدارة الشؤون الاقتصادية والاجتماعية. والعودة لكلمة "الاقتصادية"، والمبنية على "أحدث الدراسات"، نجد تجسيداً عربياً شاملاً للاهتمام بالفروع المتعلقة "بالمشكلة الاقتصادية" من "بطالة ونمو السكان وهجرة الأموال والبيروقراطية والمخاوف الأمنية والاستقرار السياسي والرفاه الاجتماعي"، ويتطابق هذا الفكر الاقتصادي مع أسلوب متابعتها في أي بلد عربي من الجهات الرسمية والعامة والخاصة والأهلية وفقاً لمسؤوليات الأطراف المعنية ومصالحهم وفوائدهم.
الأسلوب الوصفي الذي عليه تنظيم الدراسات والطريقة في إنجاز المهمات ليست جديدة علينا، ونمارسها منذ أكثر من نصف قرن، ونتائجها معروفة لنا، ونحن غير راضين عنها، ولكننا مستمرين في العمل بها واتباعها دون تغير، ولأسباب ربما تكون معروفة ومتعددة، ومعالجتها تصب في من يعنيه أمر متابعتها. المهم أنْ نعي أنَّ الأسلوب الاقتصادي الذي نسير عليه في متابعة الشؤون الاقتصادية سليم ومقبول من منظور المتابعة لفروع المشكلة ومواجهة المهمات المترتبة عليها، دون الاهتمام بالنتائج الجانبية من سلبيات وأضرار على باقي أجزاء الجسم الاقتصادي، مما يجعله إجراء غير كامل لمواجهة "المشكلة الاقتصادية الاجتماعية" السعودية برمتها.
يقول الاقتصادي الذائع الصيت والتجربة والمعرفة جون كينيث جالبريث "إننا نربط بين المصداقية والتسهيل لكل ما له اتصال قوي بالمصلحة الشخصية والفائدة الخاصة، أو يتعهد بقدر المستطاع تجنب المجهودات المعوجة أو إحداث تغيرات غير مرغوبة في استمرارية الحياة الشخصية، ناهيك عن قبول وترحيب المعطيات التي ترفع من المعنويات والمكانة الاجتماعية"، ويستمر في القول موضحاً أنَّ "العلاقات الاقتصادية الاجتماعية" معقَّدة وتَفَهُّم طبيعتها ومتطلباتها فيه الكثير من الإزعاج الفكري، وعليه فإننا نتجه "كرُمح" مسايرين الأوضاع والأفكار التي تتماشى مع فهمنا الأمور.
مُسايرة لمن "يزيد من الشعر بيت"، فإننا لم نتعرض في تاريخنا الاقتصادي الحديث ولما يزيد عن نصف قرن بجدية وحرية مطلقة، وبكفاءة وخبرة ومران لمناقشة المتغيرات والتحديات والإيجابيات للاقتصاد الوطني من منظور شامل عن "المشكلة الاقتصادية الاجتماعية"، التي عناصرها خليط من المكونات الظاهرة والخيالية، السالبة والإيجابية، الوفيرة والشحيحة .. إلخ، ويتطلب فهمنا تشجيع قيام حركة بحثية علمية من الكفاءات الراغبة في تكوين مجاميع بحثية لمناقشة "المشكلة" والحلول والوسائل والمتطلبات ضمن المقبول. وأنَّ هذا الفكر لا يقلل من أهمية الإجراءات المنفردة الرسمية والأهلية والمؤسساتية والخاصة لمواجهة الاعوجاج والأخطاء، لكن "الفردية" التقريرية في معالجة الاعوجاج المفترض، لها أضرار سلبية وفي الوقت نفسه فإنَّ الإبقاء على أسلوب عمل وفكر لا يتماشى مع العصر الذي نعيشه والتعاملات التي نلتزم بها، يترتب عليه الضعف والتخلف حتى ولو حافظنا على ما نحن عليه، لأنَّ العالم في تقدمه يبتعد عنا ويسبقنا. والله أعلم.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي