سعد البواردي.. بائع قطع الغيار الذي تحول إلى أحد أبرز صناع الكلمة

سعد البواردي.. بائع قطع الغيار الذي تحول إلى أحد أبرز صناع الكلمة

قبل أكثر من نصف قرن ووسط تحولات تاريخية وأجواء مشحونة وفي فترة ذات شأن من تاريخ المنطقة وجد بائع قطع الغيار الذي تحول فجأة إلى بائع كلمات نفسه أمام خيار صعب, إما أن يظل حبيس معتقله يناجي السقف والنوافذ الموصدة والأرض العارية وإما أن يعود إلى مسقط رأسه بعد أن تجرأ ونزل في "المحرّم الكتابي", وبعد أن وقفت مجلته التي كان هو صاحبها ورئيس تحريرها بل وكل أسرة تحريرها وكتابها متصدية لبعض التجاوزات بكل جرأة, وكان لسانها لاسعا في أحيان كثيرة مما أغضب الكثيرين وأصحاب القرار ولأن لا مفر من العقابين فقد اختار العودة إلى مسقط رأسه تاركا مجلته "الإشعاع" التي أسسها قبل أكثر من 52 عاما في مدينة الخبر في المنطقة الشرقية.
سعد البواردي من أوائل من حمل نبراس الصحافة في البلاد وبالذات في المنطقة الشرقية منها, ترك مدينته شقراء حاضرة الوشم ليستقر به المقام في الخبر على الساحل الشرقي لتكون محطته في كسب العيش والرزق, حيث عمل في محل لبيع قطع غيار السيارات لدى الشيخ الراحل عبد اللطيف العيسى, ووجد نفسه فجأة ينتسب إلى بلاط صاحب الجلالة, وليتحول من بائع قطع غيار إلى بائع كلمات ويسجل اسمه في طليعة شباب الأدب الذين امتلأوا حيوية ونشاطا وإنتاجا.
ولد سعد البواردي في شقراء عام 1349هـ وتلقى فيها تعليمه الابتدائي ثم التحق بدار التوحيد في الطائف ودرس فيها السنتين الأوليين, وبسبب ظروف المعيشة اضطر إلى قطع دراسته ليعمل في مدينة الخبر, وأصدر مجلة "الإشعاع" عام 1375هـ وعمل في وزارة المعارف واستقر فترة من الزمن في القاهرة حيث عمل في المكتب التعليمي السعودي هناك.
ويقول عبد الرحمن العبيد في مؤلفه الذي أصدره عام 1377هـ "الأدب في الخليج العربي" وضمنه بعض التراجم لأدباء الخليج: "سعد البواردي في طليعة شباب الأدب الذين امتلأوا حيوية ونشاطا, نبغ في سن مبكرة, وتعددت مواهبه, فهو شاعر وكاتب وقصصي, ولا أعدو الحق إذا قلت إنه صحافي نابه, انتسب إلى صاحبة الجلالة فأوفاها حقها وأرضى ضميره الحر, يميل في كتابته إلى الأدب الشعبي المبسط, وهو واقعي في جميع كتاباته, يمتهن الأعمال التجارية, إضافة إلى العمل الصحافي الذي يقوم به, أنشأ مجلة "الإشعاع" الشهرية, وأخذ يرسل على صفحاتها توجيهاته وكتاباته الاجتماعية, وهو بحق مدرسة أدبية قائمة بذاتها, تعنى بتحقيق الحقيقة والاستلهام من الواقع, له من المؤلفات المخطوطة باسم سلسلة كتاب الإشعاع, وشبح فلسطين, مجموعة قصصية, و"نفحات وزوابع" و"فكرة .. ومأساة", كتب في القصة الشعبية نشر معظمها بعنوان عبقري المدينة, وقصة إنسانية بعنوان "القديس الذي عاش وخلد نغما ودعوما", وكتاب "موكب الإشعاع" احتوى آراء وخواطر عامة, كما أصدر دواوين شعرية منها "أعاصير في الحب والحياة" و"أحاسيس من الصحراء" و"أطياف الربيع".
أصدر البواردي عام 1375هـ مجلة شهرية أدبية اجتماعية اسمها "الإشعاع" وصدر العدد الأول منها في آب (أغسطس) من عام 1955 وتوقفت بعد صدور العدد الأول من السنة الثالثة.
وجاء في افتتاحية المجلة في عددها الثاني الذي صدر في أيلول (سبتمبر) من عام 1955 وكتبها البواردي صاحب المجلة "إن مجلتك الإشعاع لن تكون في يوم من الأيام بوقا ولا مزمارا تدوي منه صرخات عميقة تعنف شرعة وتمدح شرعة, وتتخذ من لغة السباب والتهكم أسلوبا تلج منه إلى قلب القارئ الساذج الذي ينقاد بسهولة مع تيار الدعاية المأجورة, وأن هذه المجلة قبل كل شيء قامت لغرض واحد, وذلك الغرض هو خدمة الأدب والثقافة العامة, خدمة المجتمع وقضايا الناس وذلك بأسلوب حكيم معتدل لا تطرف فيه ولا شذوذ".
ولا يرى البواردي غضاضة في الإشارة إلى أنه ولج الصحافة من النافذة وكانت الصدفة وحدها هي التي قادته إلى الانتساب إلى عالمها. وأوضح في شهادته التي نشرها محمد عبد الرزاق القشعمي في كتابه عن البدايات الصحافية في المملكة العربية (المنطقة الشرقية) بخصوص مجلة "الإشعاع" التي أصدرها البواردي واستمرت في الصدور زهاء عامين ثم توقفت: "أعترف بادئ ذي بدء أنني ولجت إلى دار الكلمة والحرف من النافذة, ولعل الصدفة المحضة, لم أكن يومها مهيئا نفسيا ولا عمليا أن أتعامل معها, كنت أسير أسرة قطع غيار السيارات لدى الشيخ الكريم عبد اللطيف العيسى في مدينة الخبر, كان هذا هو قدري ومحطتي في كسب العيش والرزق, كانت مفرداتي أسرتي الوظيفية لا تتجاوز حدود "الكاربريتر والراديتر, الدينمو, الديلكو, البواجي, البوبينة, الشكمان, والدواليب", كان هذا هو عالمي الخاص بي ولكن وتقدرون وتهزأ الأقدار. يومها كان عالمنا العربي يعيش حالة مخاض سياسي وتحولات تاريخية, كانت الأجواء مشحونة ملتهبة, صراع حاد بين الاحتلال والاستقلال في أكثر من مكان, وكان الصوت مرتفعا ولاسعا على مستوى عالمنا العربي ونحن جزء منه نتفاعل مع قضاياه وأحداثه. في المنطقة الشرقية حيث أعمل كانت صحيفة "أخبار الظهران" الذي يرأس تحريرها أخي الغالي أبو سهيل "عبد الكريم الجهيمان" ويبدو أن الغيرة استبدت بشقيقتها الصغيرة وجارتها مدينة الخبر لماذا لا يكون لها صوت إلى جانب صوت جارتها.
حمل الراية لهذا الطموح أخي الأستاذ يوسف الشيخ يعقوب وكان أن تحققت الأمنية بصدور صحيفة "الفجر الجديد" كان هذا على ما أحسب عام 73 أو 74 هجرية.
بضعة أعداد صدرت منها ثم احتجبت وظلت الغيرة قائمة هذه المرة ولكن بشكل غير مباشر أوحى إليّ الصديق يوسف بفكرة جنونية على حد تصوري .. لماذا لا أفكر في إصدار مجلة بديلة عن الفجر المحتجب؟ هل هذا معقول؟ وممن؟ من بائع قطع غيار لم يسبق له في حياته أن تعامل مع أسرة الكلمة والحرف!
وأضاف البواردي "لقد هرشت رأسي أكثر من مرة, فكرت وفكرت, عقدت الخنصر والبنصر, لفني شيء من الشرود المشوب بالحيرة, هل هذا ممكن؟
وأخيرا انتصرت الفكرة وتقدمت إلى الجهات المسؤولة أستأذنها في إصدار مجلة.
ولأن "الفجر الجديد" احتجبت اخترت "الإشعاع" امتدادا لذلك الفجر الغارب, كان هذا في منتصف عام 1374هـ, وجاءت الموافقة سريعة.
كان عليّ أن أصدرها في موعدها المحدد بداية عام 1375هـ ولكن كيف لقارب أن يتحرك دون مجداف؟
انتهت السكرة وجاءت الفكرة, حاولت أن أستجمع ما أمكن استجماعه من مواد مساعدة وفشلت, وتوكلت على الله.
صدر عددها الأول في حجم صغير وطباعة متواضعة لدى مطابع المرحوم خالد الفرج في الدمام وفي 48 صفحة.
ولم يكن طريق سعد البواردي مع التجربة الجديدة سالكا, لقد كان هو كل أسرة تحرير "الإشعاع" بل كل كتابها, فقد كتب بأسماء سعد البواردي, س. ب, فتى الوشم, أبو سمير, وأبو نازك, كما كانت ميزانية المجلة تقتطع من مرتبه البسيط أكثر من نصفه, ولم يعر ذلك اهتماما, المهم أن تبقى المجلة أطول أمد ممكن.
ومع الأيام بدأت الأقلام تتوالى, جلها أقلام شابة واعدة مليئة بالحماس والتدفق الوطني, فقد كتب الأمير عبد الله الفيصل في عدد "الإشعاع" الممتاز وفي بداية سنتها الثانية افتتاحية العدد تحت عنوان "تحية العدد .. أمل ورجاء" حيا فيها المجلة تحية طيبة وتمنى لها المزيد من التقدم والازدهار, وصدر العدد بغلاف جميل في 68 صفحة, كما كتب فيها محمد حسن عواد, إبراهيم العواجي, محمد المسيطير, صالح الصالح, وعثمان شوقي وآخرون.
عندما طوت المجلة صفحة عامها الأول دلفته إلى عامها الثاني وقد أخذت حجما أكبر في مقاسها, كان لسانها في بعض الأحيان لاسعا ينتقصه الدفء, الأقلام مشبوبة تتعامل مع ما حولها بجرأة حادة تفتقدها صحافة اليوم لأنها كانت تعيش عصر تحولات سياسية واجتماعية.
ومن هنا جنت براقش على نفسها, وجاءت القشة التي قصمت ظهر البعير يوم أن وقفت متصدية لبعض التجاوزات بحماس زائد عن الحد.
صديق وزميل يعمل في حقل الأدب كان السبب, هكذا أوحى المرحوم الشيخ عبد الرحمن القويز لبعض المقربين منه, قال بأمانة النقل "إن صاحبنا حمل العدد الثالث والعشرين من مجلة "الإشعاع" الصادر في شهر ذي القعدة عام 1376هـ إلى المرحوم الأمير عبد الله بن عبد الرحمن واضعا أصبعه على الدمل, كما يعتقد, قائلا لسموه "انظر ماذا يقول سعد البواردي عن .. وعن ..."
وهنا ثارت ثائرة سموه وفي حضرة من المرحوم الملك سعود توسعت دائرة الإشكال والسؤال والمساءلة. في الهجيع الأخير من الليل كان الطارق على الباب, وكانت الضيافة التي أشهد أنها كريمة تعاملها وتداولها باستثناء أسبوعها الأول الذي كنت فيه أناجي السقف والنوافذ الموصدة والأرض العارية.
شهران وبضعة أيام كان أمامي الخيار الصعب, أن أظل داخل ضيافتي أو أن أعود إلى مسقط رأسي لمدة عام جزاء لي على سلاطة اللسان وردعا لأمثالي, واخترت تراب شقراء ومنه إلى الرياض حيث تحول مجرى حياتي 180 درجة من بائع قطع غيار إلى بائع كلمات أكثرها لا يستحق الشراء.

الأكثر قراءة